القطع مع الماضي لا يفترض قطع الأرزاق

إيمان أحمد ونوس:

بعد سنوات الجمر التي عاشها السوريون، خاصة مع بدء الاحتجاجات الشعبية عام 2011 وصولاً إلى اليوم، كان لا بدَّ من القطع مع ماضٍ بغيض أذاق السوريين مختلف أشكال العذاب والذلِّ والهوان. لكن هذا القطع كي يكون عادلاً بحدود مقبولة تضمنها الإمكانات المتاحة للإدارة الجديدة، لا يفترض قطع الأرزاق، فالمثل الشعبي يقول: (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق)! لما يحمله من دلالات قوية وعميقة عن ضرورة الامتناع عن الإساءة لشخص في رزقه مهما كانت الأسباب. ذلك أن الرزق هنا دلالة عن العمل الذي يقوم به الإنسان ليتمكّن من خلاله تأمين أبسط الاحتياجات اليومية لعائلته كالطعام والشراب والدواء. لكن الدلالة الأعمق في هذا المثل تدلُّ على أن قطع الرزق هو بمثابة القتل الذي حرّم الله إلاّ بالحقّ ليس لفرد بعينه، بل لأسرة كاملة، وبالتالي هو جريمة نكراء لما سيتبعها من جرائم لا متناهية بحق الفرد والدولة والمجتمع، لأنها مخالفة لكل القوانين ولوائح حقوق الإنسان، مثلما هي مخالفة للدستور الذي ينص على أن العمل حقّ لكل مواطن وواجب عليه، وتعمل الدولة على توفيره لجميع المواطنين، ويتولى القانون تنظيم العمل وشروطه وحقوق العمال.

لا شكّ بأن الإدارة الجديدة للبلاد على حقّ في القطع مع المرحلة الماضية من خلال تغيير منظومة عمل الحكم البائد، لكن ليس بالشكل الذي تجري عليه الأمور اليوم لعدّة أسباب أهمّها أن الحكومة الحالية حكومة تصريف أعمال لا أكثر، بمعنى تسيير أمور البلاد والعباد ضمن المدة الزمنية المُقرّرة من قبلها بثلاثة أشهر، ريثما يجري تعيين حكومة مؤقتة تعمل على صياغة دستور جديد للبلاد بالتوافق مع كل السوريين عبر مؤتمر حوار وطني يُفضي إلى ذلك. وبالتالي فإن الحكومة الحالية لا يحقّ لها إلغاء الدستور ولا القوانين الناظمة لحياة السوريين، لاسيما فيما يتعلق بكرامتهم ولقمة عيشهم في ظلّ أوضاع اقتصادية ومعيشية منهارة أساساً تركت الغالبية منهم ما دون خط الفقر، وبعضهم مُصنف في خانة الفقر المُدقع، فكيف سيكون عليه الحال اليوم بعد تسريح العديد من العاملين في القطاع العام تحت ذرائع غير مُقنعة حتى لمُسرّحي الجيش، وبضمنهم العمال المدنيون في مراكز البحوث العلمية وما شابهها من مؤسسات تضم موظفين مدنيين، إضافة إلى إلغاء الراتب التقاعدي للعسكريين الذين تقاعدوا بعد عام 2011، وكذلك تسريح قوى الأمن الداخلي وصولاً اليوم إلى العاملين في مركز الاستشعار عن بُعد، فقد قامت الإدارة الجديدة للمركز بطرد ما يزيد عن 100 عامل والإبقاء على البعض لمدة ثلاثة أشهر فقط، بينما أُنذر آخرون بالتجميد ريثما يتمُّ اتخاذ قرار بحقهم!

إن هذه الأعداد المُسرّحة من عملها والتي بات مصيرها مع عوائلها في مهبّ الريح، لا شكّ ستخلق في البلاد مجاعات وأزمات جديدة تُضاف إلى ما هو موجود أساساً كالبطالة والفقر وعمالة الأطفال، إضافة إلى ارتفاع أعداد أطفال الشوارع المتسولين ونبّاشي القمامة والمُتسربين من التعليم. كما أنها من الممكن أن ترفع نسب الطلاق أكثر ممّا هي عليه اليوم، إذا ما تغاضينا عن تنامي الدعارة التي ربما توارت اليوم عن الأنظار بفعل الوضع الجديد. وكذلك سترتفع نسب الجرائم بمختلف أشكالها كجرائم القتل والخطف بقصد الفدية، وأيضاً تجارة الأعضاء البشرية والمخدرات وأخواتها من تجارة وترويج وتعاطي. كل هذا لا بدّ أن يعمل على خلخلة بنيان المجتمع وقيمه التي تشوّهت بفعل مجريات الحرب وتداعياتها، وفي الوقت ذاته، يمكنه أيضاً أن يرفع منسوب الغليان الشعبي لدرجة الانفجار، لأن هذه الشرائح التي جرى تسريحها لا بدّ أن تُشكّل قنابل موقوتة يمكن لها أن تنفجر في أيّ وقت ومكان!

من الواضح تماماً أن ما تقوم به الإدارة الجديدة اليوم من تسريح تعسفي أو تجميد أو فرض إجازات قسرية، واستثناء المتقاعدين من الزيادة الموعودة وغيرها الكثير، هو مخالفٌ تماماً للتصريحات التي أدلت بها في بداية عهدها عن نيّتها تحسين الوضع المعيشي والخدمي للناس. وبالتالي هي إجراءات لا تخدم مصلحة هذه الإدارة في سعيها باتجاه التنمية المنشودة للنهوض بسورية من قاع فقرها وتخلفها. وهنا، على هذه الإدارة أن تدرك أن ارتفاع معدل دخل الفرد والتوزيع العادل له يؤدي إلى تفعيل خطوات التنمية، بما يساهم على المدى الطويل في إحداث تغيّرات اجتماعية واقتصادية تؤدي إلى تعزيز قدرات السوريين في الانخراط وبثقة في التغييرات الجارية وصولاً إلى ما يطمحون إليه في بناء سورية الحرّة المستقلّة.

العدد 1140 - 22/01/2025