حالات الانتشار المتنامي للمدوّنات
يونس صالح:
بالرغم من الانتشار المتنامي للمدوّنات أو الصفحات الشخصية على شبكة الإنترنت على النطاق العربي، فإن المقارنة بين المدوّنات العربية بنظائرها الغربية تكشف اختلافات عديدة ومنهجية عدة، هي نتاج التباين الثقافي بين العالمين العربي والغربي.. فالمدوّنات العربية في النهاية قد لا يتجاوز عددها الآلاف بالرغم من تناميها المستمر، لكنها في أوربا وأمريكا تتجاوز الملايين.
أما من حيث الموضوعات فإن أيّ متصفّح متأنٍّ للمدوّنات شرقاً وغرباً، لن يعوزه الكثير من الجهد ليدرك المسافة في التناول بين المدوّنات في الشرق والغرب.
صحيح أن هناك الكثير من المشتركات بين بعض المدوّنات هنا وهناك، خاصة تلك المدوّنات الشخصية، المهتمة بتسجيل اليوميات والانطباعات العامة، أو المدوّنات السياسية المهتمة بنقد الحكومات، لكن حتى على هذا المستوى ستجد فروقاً تعكس الوعي واختلاف السياق الثقافي الذي ينتمي إليه كل من المثقف الغربي والعربي بشكل عام.
فعلى مستوى النقد السياسي مثلاً سنجد أن معظم المدوّنات العربية ذات الطابع السياسي تتسم بنوع من المراهقة الفكرية، وعدم إدراك لطبيعة الجانب الموضوعي للنقد، وفي غالبيتها تميل للشخصنة، مما يضعها غالباً في دائرة الانتقاد والملاحقة من قبل بعض الحكومات العربية. وهذا لا ينفي أن هذه المدوّنات نفسها لا تخلو في الوقت نفسه من إيجابيات عدة، ولا يختلف اثنان على نُبل مقصدها، لكن الوسيلة، مادام مقصدها نبيلاً ينبغي لها أن تكون في نبل الفكرة، إلى جوار تلك المدوّنات التي يُعجزها عدم النضح عن الاكتمال، توجد مدوّنات عربية عديدة أخرى يمتلك أصحابها ملكات فكرية ونقدية جلية وأسلوباً لغوياً جذاباً، لكنها تظل الاستثناء لا القاعدة.
وفقاً لإحصاءات الجهات المهتمة بالمدوّنات العربية، تتسيد المدوّنات ذات الطابع الأدبي بقية المدوّنات عددياً، وهذه المدوّنات الأدبية تعتبر بالنسبة لمنشئيها، وسيلة للتواصل مع أصحاب المواهب الأدبية، وتوسيع رقعة انتشار النصوص التي يكتبونها، ولكن بقراءة مثيلات هذه المدوّنات الأدبية في الغرب، يتضح الفارق النوعي بينهما، إذ عادة ما تأخذ الأخيرة أشكالاً أكثر احترافاً، ليس فقط من حيث مستوى النصوص الأدبية التي يجري نشرها، وإنما في الطريقة التي يجري بها استخدام المدوّنة في نشر الموضوعات الأدبية المتعددة، أو تناول أعمال أدبية بالنقد، أو نشر قراءات ثقافية بالغة الأهمية.
مع ذلك فهناك اهتمامات مشتركة كثيرة تجمع المدوّنات العربية والغربية، أياً كان مستوى التناول في كل منهما، مثل المدوّنات المهتمة بالموسيقا أو السينما أو الفن التشكيلي وغيرها.
أما الاستثناء التي تنفرد به بعض المدوّنات العربية فيتمثل فيما تتسم به من جرأة، إذ تهتم بتناول عدد من الموضوعات المسكوت عنها في البلدان العربية مثل قضايا الجنس والدين، أو نقد ذكورية المجتمعات العربية أو غيرها. فمثل هذه الأمور في الغرب لا تحتاج إلى مدوّنات مكرّسة لها بسبب الحريات التي تتمتع بها المجتمعات الغربية.. لذلك فإن مثل هذه المدوّنات الاستثنائية العربية سيكون لها دور رائد في هزّ عرش صمت الإعلام العربي الرسمي المحافظ.
وبالرغم من كل تلك الفروق والمتشابهات بين المدوّنات العربية وغير العربية، فإن هناك في النهاية مستوى من المدوّنات لها اهتمامات خاصة جداً تعد بعيدة جداً عن دائرة اهتمامات المدوّنات العربية الضيقة، إذ تتسع دائرة اهتمامها لموضوعات ليس لها وجود في العالم العربي من الأساس، ومنها مثلاً المدوّنات المهتمة بعلوم الفضاء، بالاكتشافات الحديثة في مجال الفلك، وبمتابعة رحلات رواد الفضاء في مهامهم العلمية، أو بعض المدوّنات المختصة بمتابعة الإنجازات العلمية الحديثة.
هناك أيضاً مدوّنات غربية مهتمة بالعلوم بشكل شديد التخصص يصعب وجود نظائر عربية لها (هناك بعض المدوّنات العربية المهتمة بالعلوم وتعتمد على الترجمة وتكاد تعد على أصابع اليد)، كما تنتشر أيضاً في المدوّنات الغربية مجموعة كبيرة من المدوّنات شديدة التخصص في علوم الكمبيوتر وتقنياته والإنترنت والبرمجة، إضافة إلى مدوّنات يغلب عليها الطابع الفني، مثلاً بالقصص المصورة، وهو إنتاج غربي له سوق واسع جداً، ولا يقتصر على القصص المصورة للأطفال، كما هو شائع في البلدان العربية.
باختصار، بقدر ما تبدو المدوّنات العربية وسائل جيدة للتعبير بحرية عن الرأي والأفكار، وتكشف الكثير مما كان مسكوتاً عنه لعقود عدة في مجتمعاتنا العربية، فإن ضيق المساحة التي تتحرك فيها هذه المدوّنات يكشف مسألتين أساسيتين: الأولى هي إبراز السلبيات الكارثية الثقافية التي تسبّب فيها التضييق والمنع والمصادرة والوصاية على أجيال تبذل كل طاقتها لتنجو بنفسها من ذلك الوأد للشخصية ولنموها الطبيعي نفسياً ومعرفياً.. أما الثانية فهي أن المجتمعات العربية، بازدواجيتها وضيق أفق المعرفة المتاح لها لاتزال بعيدة عن المستقبل علماً وثقافة وتعليماً ووعياً.
وبالرغم من كل ذلك فسوف تكون المدوّنات هي المؤشر الأول لكل خطوة يمكن أن تخطوها المجتمعات العربية للمستقبل بالرغم من كل القائمين على وسائل الوصاية الفكرية في أرجاء العالم العربي.