هل يمكن للشعر أن يكون شاهداً على المأساة؟

ماذا يمكن أن يفعل الشعر وسط كل هذا الخراب والحزن؟  إنه أول سؤال يتبادر إلى ذهنك عندما تتلقى دعوة لحضور أمسية شعرية، ومن سيأتي ليسمع الشعر بدلاً من نشرات الأخبار والتحليلات السياسية المتباينة المقنعة احياناً وغير المقنعة غالباً على مدار الساعة؟ ومن سيبتعد قليلاً عن صفحات رصد أماكن هبوط قذائف الهاون هدايا السماء إلى دمشق؟ وهل يمكن للشعر بتقنياته الخاصة التي تعتمد على الكلمة وعلى الصورة الشعرية أن يكون شاهداً على المأساة ومؤثراً كالصورة الصحفية المباشرة مثلا باختلاف؟

في جلسة شعرية جمعت في المركز الثقافي العربي بالمزة: الشاعرة فيوليت محمد، والشاعر محمد سعيد حسين، والشاعر طلال سليم، وأدارها الكاتب والقاص الأستاذ نصر محسن، حضرها جمهور قليل، كان مشهد المقاعد الفارغة في المسرح يعصر القلب، وكم كان أجمل لو أن إدارة المركز اختارت قاعة صغيرة يكون فيها الجمهور متجمعاً لا متناثراً، وقريباً من الشاعر، لكانت حالة التلقي أجمل بكثير.

 قدمت الشاعرة فيوليت مجموعة من قصائد الشعر الوجداني الرقيق الذي يتحدث عن علاقة المرأة بالرجل بأسلوب رشيق، وقدم الشاعر طلال سليم مجموعة من القصائد المحملة بالألم السوري الراهن، وهو الشاعر الذي عاش المأساة السورية مضاعفة بسبب ما تعرض له من أذى مباشر من قبل المجموعات الجهادية الإرهابية، أباً وزوجاً أولاً، وشاعر ومثقفاً شاهداً على مأساة أبناء بلده ثانياً، فقد خُطِفت عائلته الصغيرة  بأكملها من قريتهم في آب الماضي 2013 في ما عرف بآب الأسود، الشهر الذي حدثت فيه مجازر ريف اللاذقية على يد المجموعات التكفيرية وقضى فيها عدد كبير من الأبرياء، وخُطف عدد كبير آخر وهُجِّرَ آخرون من أهالي تلك القرى، لكن رغم قيام الجيش العربي السوري باسترداد تلك القرى في وقت قصير ودحره لمجموعات الموت تلك،  بقيت قضية الرهائن المخطوفين تقض مضجع أهاليهم خاصة  أن معظمهم كان من النساء والأطفال، ومن بينهم زوجة الشاعر وأطفاله.

قرأ طلال سليم قصيدته (رسالة إلى إبليس)  مع غصة كبيرة تحدث فيها عن مأساته الشخصية وعن مأساة وطنه يقول فيها: يا أطفالي/ المشرّدين في الأرض/ أنا أبوكم التعيس/ منذ الآن سأناشد إبليس/ فكلّ شيوخ الأرض لم توقف الدم السوري/ وكلّ الرسائل والرسل لم ترجف قلوب القتلة/ فيصوّبون بنادقهم/ ودائماً ضاحكين/ صوب القلب/ يا إبليس/ رفقاً بصغاري/ فأبناؤك القساة كسروا قفل بيتي/ ومن أراجيح أطفالي/ نصبوا مشانق للحياة/ يا إبليس/ رفقاً بدعائي/ تقرّب… تقرّب من القلوب الحجرية/ اغوِهِمْ بخطيئة أخرى/ تأخذهم بعيداً عن حرابهم/ اغوِهِمْ ليتعرّوا من ثمار قنابلهم/من وسخ الصفحات المثقلة بطوفان الدم../لا تتأفّف منهم/هم جياع للخطيئة/ فافرش لهم الموائد/ وعجّل…/عجّل صوبهم/ لكن…/ احذر قليلًا/ لم يتركوا من الأرض إلاّ / حقل ألغام.

ومن قصيدة (إلى روحها) وهي قصيدة كتبها حين سُرِّب إليه خبر مقتل زوجته مع طفلته الكبرى أثناء عملية الخطف، وحتى الآن يتمنى لو أن هذا الخبر غير صحيح: يا يتيمة الأبوين/ والزوج/ والأولاد../ لروحك الفياضة/ سأزرع البنفسج/ وأرشّ القمح / للعصافير المهاجرة/ بيادر… بيادر/أغويها بحقول قمح بلا فزّاعة/ أعرّي لها الصيادين/ من بنادقهم/ وأعرّي البنادق من شعيراتها/ أقطف القنابل عن خصور القتلة/علّ العصافير/ تطير بعيدًا/ صوب الله/ وتلامس طيف روحك/علّها تعود/ وترفّ بأجنحتها/فأشمّ رائحة الحياة فيكِ.

تحدث في القصائد التي قرأها كيف أن هؤلاء القتلة يهتكون حرمات الحياة ويسرقون الأرواح ويحرمون  الناس الأبرياء من أحبتهم ، و كان قد صدر للشاعر مجموعتان شعريتان: (شهوة الخريف) عن دار بعل 2013. أما الأستاذ  محمد سعيد حسين وهو شاعر وقاص قدم من مدينة طرطوس البحرية ليشاركنا إبداعه الجميل فصدرت له مجموعة قصصية مشغولة بالهم الإنساني وهاجس الإنسان المقهور بعنوان (مكاشفات زهرة الدفلى) في عام 2010 عن دار بعل، لم يخرج في بعض القصائد التي قرأها عن الهم السوري و ألم توديع قوافل الشهداء وقتلى العنف والمصادفة، يقول في إحدى قصائده:    وكان حفلاً باذخاً/ خمسةُ توابيتَ تحلّق في أعالي الفقد/ فوقها تحلّق خمسةُ أرواحٍ/ كانت منذ قليلٍ فقط، تسكنُ أجساداً مفعمَةً بالحرارةِ والحماس والأحلام والإيمان والخطيئة !/خمسةُ توابيت تخبّئ خمسَ جثثٍ لخمسةِ رجالٍ/ تضمّخ أجسادهم بالدّموعِ والحسرةِ، خمسةُ أرواحٍ لخمسِ نساءٍ أصبحن أرامل للتّو !/ خمسةُ توابيتَ، تضمّ خمسَ جثثٍ، لخمسةِ رجالٍ، ترفعهم عشرات الأكفّ/ لقتلى محتمّلين!/ وخلفها تسيرُ مئاتُ الجثث الصامتةِ الباكيةِ الحزينةِ/ ومن حولها تطّايرُ (جثثُ) الكلمات الحالمة بالحريّة والحياة.

ثم قرأ قصيدته الوجدانية الجميلة، كأنّي تنبّأتُ هذا الوصول..!!/ ومنها: برغمِ يقيني أنّكِ محضُ احتمالِ/وأنّ احتمالَكِ أبعدُ منكِ/وأنّي – ذاتَ اشتهاءٍ – رسمتكِ من مفرداتِ الخيالِ/ تقمّصتُ طيفَكِ/ أيقنتُ أنّك لي/ وأنّ امتدادكِ فيّ/ انبلاجُ العناقيد من أمّهات الدوالي/ وأنّ قيامتَكِ في الوضوح/جوابٌ عصيٌّ على هرطقاتِ السّؤالِ/وأنّكِ أوّلُ فصْلِ الجمالِ/وخاتمُ كلّ الفصول..!!

 وختم بقصائد رشيقة من الشعر المحكي ذكرتنا بالرشاقة والجمال في قصائد طلال حيدر، أسعدت الجمهور وخففت من حدة الحزن الذي يعرفه الشعراء أكثر من غيرهم، ومنها هذا المقطع: وبِلْمَحْ خْيالِكْ بالحلم/

متل الْ كأنّو مَيْدَنِي من اللادقيي/ مْسافْرا عَ كْرُومْ حمْص تْقَطّفْ سْلال العنَب/وبْشُوفْ صدرِك دَالْتَيْن جْرَاسْ/ حاملهُنْ صَليبْ الرّبّ عَا مدخَل كَسَبْ/ وبْشُوفْ طَرْطُوس البحرْ/ بِعينْتَينِك هالخضرْ/عمْ تزْرَع غْنَاني الأمَلْ بي إدلِب الخضْرا/وجْوانِح الفينيق عَمْ تنْفُض رْمَادْ الوجَعْ/ وتْبِلّ ريْشَاتا بْحلمْ بُكرا/

وْنصحَى ـ أنا و الحلم ـ ونغنّي:/ ما ضلّ شي من غيبتِك/غيْر الكأنّو رحْ تِجي/وْغير الكأنّو صار مفتاح الأمان/ بجَيْبتِك..!

ونعود إلى سؤالنا الأول: هل يمكن للشعر أن يكون شاهداً على المأساة؟ نعم، بكل تأكيد، لأن الشاعر قبل كل شيء هو أحد مواطني بلاده وربما يتميز عنهم بأنه يستبصر الخطر الحقيقي قبل غيره بحكم تكوينه النفسي والروحي الخاص، فكيف إن صعق هذا الخطر روحه على حين غفلة، في حين كان يحذر أبناء وطنه منه.

العدد 1140 - 22/01/2025