عقدة المسؤولية

اسمه مسؤول!

لم يأت الاسم من فراغ، فلو لم يكن في موقع المسؤولية لكان على الأقل تغيّر اسمه ولُقب بلقب آخر.. نعم، هو أي مسؤول في هذه الدولة مهما علا شأنه أو صغُر، إلاّ أنه حتى اللحظة لا يدرك سوى أنه في منصب أو في وظيفة مسؤول، دون أن يعي المسؤولية الحقيقية التي ينبع منها اسمه وصفته المنبثقة عنها وظيفته أو منصبه.. إنه المسؤول الذي لا يمارس مسؤوليته وواجباته، وهو موجود في مجتمعنا ومؤسساتنا بكثرة، فهو الذي لا يفهم المسؤولية سوى بمعنى وحيد ألا وهو : التعالي على المواطن وقمعه، إن واجهه هذا المواطن بالحق والقانون واعترض على تصرفاته البيروقراطية مرة وهو بمسؤوليته.

واقع مؤسسات الدولة بشكل عام ومراكز الشرطة بشكل خاص هي الشكل الأمثل لما ندّعيه:

فشعار (الشرطة في خدمة الشعب) تجده يلاحقك أينما ذهبت، في الطرقات والشوارع، وإن دخلت مخفراً يواجهك كلما التفت، ولا يختفي إلاّ لحظة إبرازك معاملتك أمام أحد عناصر الشرطة، لترى نقيض النقيض لهذا الشعار في التنفيذ والمعاملة.

وكلما ارتفعت الرتب صار التعامل صعباً أكثر فأكثر مع الشخص المسؤول وقلّ وجوده، طبعاً بحجة جاهزة على الفور وهي (اجتماع طارئ)، وأنت كمواطن ما عليك سوى الانتظار ولو طال انتظارك ساعات وأياماً، للتوقيع على معاملة صغيرة وإجرائية، لكن أمر توقيعها محصور بيد هذا المسؤول الغائب أو ذاك المسؤول المشغول.

انتظارك هذا يُحتم عليك أن تكون مواطناً خلوقاً ومطيعاً، سعيداً بهؤلاء ومبتسماً للحياة، لديك من صبر أيوب الكثير، تبدأ يومك سعيداً بانتظارهم، ولا تيأس إن كرست لهم وقتك يوماً بعد يوم، ولا تهتم للمسافة التي تقطعها ذهاباً وإياباً ولا لعذابك أكثر من مرة حتى تحل مصادفتك السعيدة بمن بيده حق التوقيع، ولا تفكر بأشغالك وأعمالك! لا يهم، كله مؤجل، مادام التوقيع محصوراً بيد ووقته الآن ليس لك ولأمثالك، ومهما بلغت نفقاتك المالية ومصاريفك فالمهم في النهاية أن تواصل ذهابك وإيابك حتى تلقاه وتضرب له التحية مسروراً بقامته البهية وبرسم توقيعه على معاملتك، لأن توقيعه في النهاية ماركة مسجلة له دون غيره، وستبقى معاملتك معلّقة مادامت أنامله الرقيقة الجميلة لم تخطّ التوقيع عليها.

أنت ـ بصفتك مواطناًـ واجبك فقط أن تتبع الإجراءات المسماة تجاوزاً قانونية، ومن ضمنها انتظار العميد والنقيب وغيره، والعودة غداً أو بعد غد أو بعده.. لا يهم، فأنت المواطن وهو المسؤول.

تماماً كما حصل في أحد مخافر مشروع الشام الجديدة، أو ما يُسمى مشروع دمر، وليس خيالاً بل واقع مرير..

تنظيم عقد إيجار: كان حدّه الأقصى نصف ساعة، بات اليوم، مع تعقيدات الروتين وإجراءات المخفر يستغرق أياماً وليالي، أما في مخفر مشروع دمر فإنه يتوقف على آخر فاتورة كهرباء التي لا تصح الموافقة الأمنية دونها، حتى لو أتيت لهم ببراءة ذمة مالية من شركة الكهرباء مصدقة أصولاً، يُسمعك ضابط برتبة نقيب يفترض أنه مجاز حقوقي مُلّم بالقانون ويفهم القانون، بقوله: قبلت ببراءة الذمة تجاوزاً أي بالمفهوم المعاكس كان يفترض بي أن لا أقبل بها، لأنها غير قانونية، فالمطلوب آخر فاتورة كهرباء.

 عندما سمعت هذا الجواب، احترت، على من أبكي: على حالي، أم على حاله، أم على حال البلد؟

يريد آخر فاتورة كهرباء ليتأكد من أن المأجور بريء الذمة أمام شركة الكهرباء، فأقدمت له ببراءة ذمة كاملة من الشركة لشهر إلى الأمام تشكل قرينة قانونية أقوى من الفاتورة، أجيبني بردّ صدمني، دون أن يُكلف نفسه قبل إجابته وهو على كرسيه وفي وظيفته كمسؤول رسمي أن يقرأ تلك الوثيقة الرسمية التي هي قانونية وأقوى مما يطلب؟

وتأتيك الصدمة بعد الأخرى عندما يضيف قائلاً: حسم قصة فاتورة الكهرباء: قبولها من عدمها بيد العميد حصراً، والعميد غير موجود، عودي مرة أخرى!

سيادة العميد – بقدره وبشاغله – يحصر توقيعه وصلاحياته بفاتورة كهرباء!

ولا أي أحد من هؤلاء يهتم لك من أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وكيف أتيت؟ تعذبت أم لا؟ هو على كرسيه وفي غرفته مع التكييف فلماذا يهتم لك وأنت على الطرقات؟ يجيبك بكل بساطة: عد من حيث أتيت وراجعنا مرة أخرى حتى تجد المفوّض بالتوقيع، هذه تعليماتنا.. وأنت في النهاية مواطن عادي بمرتبة إنسان، لا يحق لك حتى الاعتراض، عليك فقط التنفيذ.

هذا قانون؟ أم سلطة؟ أم سلطة القانون؟ أم قانون السلطة؟ وأين القانون من كل هذا؟ وأين القانون في كل هذا؟ وهل في تعليماتهم تطبيق للقانون؟ أم أنها بمجملها مخالفة صريحة للقانون؟

أولاً إن قرأت شروط عقد الإيجار على حائط ذاك المخفر لن تجد شرط فاتورة الكهرباء، هذا للعقارات المسجلة في السجلات النظامية.

ثانياً إن فتشت في مراسيم عقود الإيجار والاستئجار وفي جميع اجتهادات المحاكم ذات العلاقة، لن تجد ما يسمى اشتراط آخر فاتورة كهرباء، ما يعني أن القرارات باتت تحل محل القوانين، أي السلطة التنفيذية حلّت محل السلطة التشريعية.

ثالثاً المؤجر حالياً نادراً ما يكون موجوداً في الداخل، وغالباً من يقوم بالتأجير هو وكيله القانوني الذي لا يدري شيئاً عن فواتير عقاره، والمستأجر الجديد بطبيعة الحال جديد لا علاقة له بالقديم لا من بعيد ولا من قريب.

وبالتالي من الصعوبة بمكان على الاثنين جلب آخر فاتورة كهرباء، في حال كانت مدفوعة لن يُعطى بديلاً عنها، وفي حال لم تكن مدفوعة فبإمكان شركة الكهرباء اتخاذ الإجراءات القانونية الكفيلة بإعادة حقها لها، وهي لا تُقصر في هذا وتتخذ إجراءاتها مع الجميع في لحظة ودون تردد، ودون شروط تعجيزية كالتي تُوضع للمواطن العادي، فكل شيء مفتوح أمامها لأنها مؤسسة دولة، فلماذا التعجيز والتضييق والتعقيد بالإجراءات على المواطن هنا بسبب فاتورة؟ والمستأجر الجديد على ما أعتقد يكفيه تقنين الكهرباء اليومي الذي يعيشه، لا يُحبذ أن يبقى زيادة معه بالظلام الدامس ليلاً نهاراً فقط، بل سيسارع إلى الدفع لأجله وليس حباً بالشركة.

رابعاً أما شعار (الشرطة في خدمة الشعب) فلا أدري أي شعب يقصدون؟ لأن لا تطبيق له على الواقع العملي، إذا كانت فاتورة كهرباء مقارنة ببراءة ذمة مالية من الشركة محصور أمر حسمها بيد العميد فقط الذي نادراً مايكون موجوداً، لانشغالاته الدائمة؟

فكم بالأحرى الإجراءات الروتينية الأخرى؟

خامساً اشتراط الموافقة الأمنية ألا يكفي، ويفي بالهدف لمعرفة واستكمال النواقص من عدمها؟ أم على ماذا تتوقف هذه الموافقة وماهي غايتها وبم تبحث؟

سادساً إلى متى سيبقى سلك الشرطة يتعامل بفوقية مقيتة مع المواطن؟ ولماذا يتحفه فقط بشعارات فارغة من مضمونها؟ وإن تكلم المواطن بالقانون يهدده باتخاذ إجراء مخالف للقانون، لكنه مشرّع له بحكم سلطته ونفوذه وقوته؟

ألم يحن الوقت لنعي أننا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات التي نص عليها دستور هذه البلاد؟

ألم يحن الوقت لهذا السلك أن يُدرك أن لديه صلاحيات استثنائية عليه تسهيلها وليس تعقيدها، وأن ليس كل من يتعامل معهم مجرمين، بل أنُاس محقّون بطلباتهم، ومن واجبه ومن حقهم عليه احترامهم واحترام وقتهم وحقوقهم أيضاً؟ وإلغاء لغة التهديد والوعيد وخطاب الفوقية واللامسؤولية من شخص بكامل المسؤولية؟

العدد 1140 - 22/01/2025