قناة الجزيرة والمعولمون الجدد
حتى أواسط تسعينيات القرن الماضي، بقيت معظم معلومات الناس في بلادنا مرهونة بما تقدمه وسائل الإعلام الحكومية، وطريقة إيصالها لتلك المعلومات، وما تسلط عليه الأضواء ..الخ، لكن إنشاء قناة الجزيرة في قطر عام 1996 بمنحة من أميرها حمد بن خليفة آل ثاني بمبلغ 150 مليون دولار، وبكادر محترف كان يعمل في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، وعن طريق بث آراء مخالفة للسائد خرقت الخطوط الحمراء المعتادة، فتح آفاقاً واسعة للمعلومات وفرض تغييرات كبيرة اضطرت إليها مختلف وسائل الإعلام في العالم العربي دون أن تؤثر على الرصيد الشعبي الذي اكتسبته القناة، ففي استطلاع لمؤسسة زغبي يعتبر 53% من العرب الجزيرة مصدراً أول للأخبار.
حقيقة الدور
الانفتاح الذي أحدثته قناة الجزيرة لم يكن هبة من أمير قطر لتحرير ذهنية الشارع العربي، وهو الذي لم يؤمّن الحرية والكرامة لشعبه، ولم يحكم بإرادة هذا الشعب، ولم يمثله في مؤسسات حكم كالتي تقوم عليها الدولة الحديثة، فمن الغباء التفكير بالانفتاح كتقدمة عائلات مالكة وأمراء من بقايا القرون الوسطى يحظرون أي نشاط سياسي وحزبي في بلدانهم.
جاء الانفتاح في سياق تطور الدور الكبير المنوط بالإعلام للتأثير في توجهات الرأي العام وإدارتها وفق مقتضيات أجندة أمركة العالم، بعد الحافز الهائل الذي شكلته نتائج ذلك التأثير في الحرب النفسية على المنظومة الشيوعية التي ما إن تفككت حتى اعتبرت واشنطن نفسها وصية على العالم برمته، وكلفت أتباعها بمهمة التبشير بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لإنقاذ البشرية من محور الشر والدول المارقة- حسب تعبيرها- وكما ادعت متخذة من هذه المهمة ذريعة للسيطرة على ثروات العالم وإخضاع دوله واستغلالها، باستخدام كل الوسائل المتاحة من القوة العسكرية المباشرة إلى الغزو الثقافي وسلاح الإعلام والدعاية والتعبئة النفسية. ففي زمن (حلول ثقافة -السمعي البصري- محل الثقافة المكتوبة كميزة من ميزات العولمة ليست مجرد تقنية للتلقين بل طريقة لتشكيل الوعي) (العولمة والممانعة/ عبد الإله بلقيز ص62-63) وجدت قناة الجزيرة كموقع أساسي متقدم على جبهة هذه الأجندة في المحيط العربي.
أمنت الجزيرة شعبيتها باللعب على مشاعر عداء الشارع العربي للاستعمار، قبل أن تتمكن من تعبئة جزء كبير من أصحاب تلك المشاعر واستدراجهم لخدمة الفكر الاستعماري في مفارقة مدهشة، فخلال عدة سنوات من البث تشكلت جماعات معولمة أمريكياً داخل بلدان المنطقة من كتاب ومثقفين وفنانين وصحفيين وسياسيين وأشخاص عاديين ميالين إلى التغيير والتعددية بهروا بما طرحته برامج كالاتجاه المعاكس الذي يقدمه السوري فيصل قاسم، وبلا حدود وشاهد على العصر وشاهد على الثورة التي يقدمها المصري أحمد منصور، دون اكتشافهم حقيقة تلك البرامج، كأول مدرسة إعلامية لقلب مفاهيم الجماهير وتغيير وجهتها نحو مشهد ثقافي بديل يطلق موجات الكراهية والبغضاء والأحقاد بين المكونات الاجتماعية لبلداننا، يضعها في مواجهة بعضها في سياق صراع الحضارات الدموي الذي يقضي قضاء مبرماً على القضية الوطنية الأساسية – الصراع العربي الصهيوني.
كان مفتاح لعبة الجزيرة معادلة تصنيف غير جدلي بين القديم والجديد، فالقديم في خطابها المعولم هو قديم مجتزأ من التاريخ حدوده التجربة الاشتراكية السوفييتية، رجوعاً إلى عصر الأنوار كحد أقصى، لا يمس عصور سلطة الأديان الظلامية السابقة له، والجديد هو جديد مجتزأ من حاضر يفصله (المخلص) الأمريكي عن ماضيه كانفصال الجنة عن النار في الأسطورة الدينية.
وفق هذا التصنيف المزيف تنتمي إلى عالم الماضي البائد في وعي أعداد كبيرة من المتلقين كل القوى المتمسكة بالسيادة الوطنية، من الأحزاب التقدمية القومية والماركسية وحركات التحرر الوطني والرموز والثقافة والفكر والشخصيات المرتبطة بها، وتنتمي إلى العالم الجديد كل قوى التبعية من منظمات المجتمع المدني إلى التيارات والشخصيات اللبرالية والدينية ومن اليسار الإمبريالي رغم اختلاف مواقفها من العولمة الأمريكية بين الانبهار والرفض، وأصبح مفهوم الجديد غير معني بتقدم شعوب ودول العالم بل بنفي ذاته، فلم يعد يتجاوز إحياء قيم رجعية بالية من زمن ما قبل الأنوار، إضافة إلى خرقه للسيادة الثقافية وهي جزء من السيادة الوطنية، وباستثناء قوى الممانعة أصبحت تبعية الأنظمة الخليجية معممة على الأوساط الشعبية في مجمل المحيط الإقليمي، من الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، إلى البروفيسور في الجامعة الأمريكية في بيروت.
المعولمون الجدد ولقطات من المشهد الثقافي البديل
من 1996 إلى 2006 تفشت أعراض ثقافة العولمة بشكل مرعب في مواقف الجماعات المعولمة في ساحات المواجهة، وهذه الجماعات التي تكون وعيها الجديد بمصل الثقافة السمعية البصرية، وصفها عبد الإله بلقزيز بالجالية الثقافية الأجنبية المقيمة على أرضنا، وهي ليست حزباً سياسياً بالمعنى التقليدي للكلمة والمقصود بها أو بكلمة المعولمون من الجانب الثقافي: أدوات العولمة الأمريكية من أفراد انتقلوا (من المجال الوطني والقومي إلى المجال الكوني)، في إطار استراتيجية الهيمنة وتحت إغواء الجديد المزيف، حاملين رؤية تكسر السائد والمألوف بجديد هزيل وسطحي، موجّه ومستفز لا يمثل محيطه الاجتماعي بل يقتحمه بانفعال أجوف واستعلاء مرضي واضح، إذ يصاب المعولم بالتورم النفسي، إن شخصه جزء من جديد تجاوز قديماً (يستحق التهكم عليه)، ويصيب لاشعوره وهم أنه مواطن أمريكي مقطوع الصلة بموطنه الفعلي (الصغير، القديم، المتخلف)، ويكون أعداء الولايات المتحدة هم أعداءه وأصدقاؤها أصدقاءه، ورؤيتها وأهدافها رؤيته وأهدافه، وشعاراتها شعاراته، وينخرط في الجدل السياسي والثقافي عموماً مقاتلاً عنها بالوكالة مدافعاً عن قيمها ومتبنياً مشروعها حتى لو كان معارضاً لسياساتها في الواجهة. لكنه في الجوهر يتسلح بحرية الرأي والتعبير للعدوان على شعبه ومؤسسات بلده من داخلها، وهنا مكمن الكارثة الثقافية.
حين كانت صواريخ الطاغية الأمريكي تمطر أفغانستان والعراق مخلفة ملايين الضحايا كانت الجماعات المعولمة تزعق غاضبة من ستالين المتوفي منذ 1953، ومن جمال عبد الناصر المتوفي منذ 1970، متجاهلة وحشية ما يفعله على أرض الواقع هذا الطاغية الأعظم في زمننا، وحين كانت طائرات الاحتلال الصهيوني تحرق الأخضر واليابس في لبنان من شماله إلى جنوبه 2006 كانت الجماعات المعولمة المحلية ترافق ذلك العدوان بحملات شرسة على المقاومة اللبنانية وسورية وإيران، بلسان العولمة التحريضي المذهبي، وحين عبر شخص كمنتظر الزيدي عن غضبه من جورج بوش محتل بلده بقذف الحذاء على رأسه في بغداد 2008 توترت أعصاب تلك الجماعات المعولمة، ليس من الكوارث التي خلفها العدوان الأمريكي في العراق، ولا من زيارة القاتل بوش الاستفزازية، بل من أبسط حالة رمزية للمقاومة اعتبرها المعولمون شكلاً من الهمجية، هم أنفسهم الذين دعموا أشنع أشكال الهمجية التي ارتكبتها المجموعات الإرهابية المسلحة تحت مبرر ثوري مفبرك، حين بدؤوا في 2011 يُظهرون العداء لا للعدو الصهيوني، العدو التقليدي للشعوب العربية، بل لـ(العدوّ السوري) وهو الوحيد الباقي على خطوط المواجهة. وكما تصرفوا بمنتهى الهمجية ضد الفنان المبدع زياد الرحباني بعد حضوره مهرجاناً لحزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت 2012، فانهالوا عليه باتهامات التشبيح، ووصلت وقاحة الصحفي السعودي فيصل العامر أن اعتبره أحد المطلوبين على قائمة الإرهاب.
حين اغتال مجرم سلفيّ المناضلَ الأردني ناهض حتر 2016، المناهض للعدوان على سورية، تجاهل المعولمون الجريمة تماماً، ولم يكتفوا بعدم الإدانة، بل عبّروا عن امتعاضهم ممن استنكرها، ولو كان شريكاً في العدوان لتعاطفوا معه وترحموا عليه كما حدث في حملة رثائهم للمغنية الفلسطينية ريم البنا، التي دخلت بطريقة غير شرعية إلى سورية من الحدود التركية بجواز سفر إسرائيلي، لتقديم المساعدات إلى الجماعات الإرهابية المسلحة شمال حلب، وصرحت بوقاحة بجملة من الأكاذيب التضليلية بأنها لم تر سلفياً ولا من القاعدة ولا من جبهة النصرة ولا حتى مظاهر للمسلحين، وكانت قد شبهت الجيش السوري بجيش الاحتلال الصهيوني، دون أن يحرك ذلك الموقف المهين للكرامة الوطنية أي رادع عند المعولمين المشبعين بروح التبعية والانحطاط الأخلاقي وفقدان الانتماء الوطني.
الاستهتار بالقضية الوطنية وبالسيادة كان علامة فارقة في سلوك الجماعات المعولمة منذ تجاوز قناة الجزيرة مهمة الإعلام إلى مهمة صياغة الحدث السوري والشراكة التامة في التحريض على العنف والتدمير واختلاق وفبركة أفلام الفيديو وإنفاقها آلاف الدولارات على تهريب وسائل اتصال عبر الأقمار الاصطناعية للمعارضين في الداخل، في وقت كان المعولمون يشيعون مقولة (المؤامرة هي من الداخل) لنفي المؤامرة الخارجية، وكانوا يرددون الخطاب الأمريكي الخليجي بلا خجل سواء في اعتبار الوجود الروسي في سورية استعماراً، أو في وصف العدوان على سورية بالثورة و الإرهابيين بالثوار، ومن أقبح الأمثلة على ذلك تضامنهم مع منظمة الخوذ البيضاء المرتبطة بالمخابرات البريطانية وأعضائها من إرهابيي جبهة النصرة التي كلفت بافتعال مسرحيات الكيماوي لاتهام الدولة السورية وتأمين ضربها بآلة الناتو العسكرية.