في سرفيس الثورة

صباح اليوم، كنت أقف بين الجماهير في الشارع أستمتع بشمس آب الضرورية لنضج الرؤوس ونضج الجوز، وفيما عيني اليمنى ترصد السماء بحثاً عن قذيفة محتملة، واليسرى ترصد الطريق بانتظار مجيء السرفيس المخلّص، فجأة حدثت المعجزة، فمثل ملاك أبيض حط سرفيس بديع أمامنا،والغريب أنه كان فارغاً تماماً مثل المراكز الثقافية، الحقيقة أن أحداً من المنتظرين لم يتحرك تجاهه، فقد أثار شكوكنا، إلا أن السائق راح يصيح: (عالشام… عالشام)! فاندفعنا بكل عزم، وبعد النضال العنيف أخذ المحظوظون أماكنهم، ولأني منهم جلست مطمئنة مثل فرعون، وصار مزاجي رائعاً لدرجة أني طربت مع المغني الذي يصدح في راديو السرفيس (يا بياع الفواكي… بالله تسكر دكانك…) ورحت أتأمل معانيها العظيمة متسائلة عن علاقة بياع الفواكي بالقصة، ولماذا يريدون منه أن يسكر دكانه، فهل السبب أن دورية التموين في طريقها إليه – لا سمح الله – أم أن في الموضوع تحريضاً على الإضراب؟ ولم يوقظني من تأملاتي الفلسفية إلا صوت السائق يتجادل مع راكب (عونطجي) يصرّ على دفع الأجرة النظامية، بينما السائق يطالبه بخمس ليرات إضافية – كما هو العرف – وطبعاً كنا جميعاً متقيدين بالأعراف والتقاليد السرفيسية ماعدا ذاك المتمرد، أصر الراكب على موقفه، فطلب منه السائق بكل برود أن ينزل ويأخذ سرفيساً آخر ويدفع هناك التعرفة النظامية، عندئذ على ما يبدو دب الحماس الثوري في رأس الراكب وهتف عالياً: (نعم سننزل… هيا يا إخوان انزلوا إلى الشارع…) لكن أغلب الإخوان كانوا نائمين بعد أن أتعبهم الوقوف الطويل في الحر، فراح يدعو بصوت أعلى (يا شباب العرب هيا)! لكن الشباب لم يسمعوا صراخه لأن كل واحد منهم وضع سماعات الموبايل على أذنيه وصار خارج التغطية، بينما المرأة الجالسة بجانبي راحت تتمتم (يبعتلو حمى… يروح ينقبر ينزل شو بدو فينا) وهي تهدهد الطفل النائم في حضنها الذي بدأ ينزعج من الضجيج الثوري، خلفي كان يجلس رجلان مثقفان على ما يبدو، فأحدهما كان يستنكر إصرار البعض على التحدث باسم الجماهير، بينما زميله يشرح له علاقة الفساد بالثورة. في هذه الأثناء كان السائق الواثق من نفسه قد أطفأ المحرك وراح ينتظر ما ستتمخض عنه ثورة السرفيس. أما الراكب الثورجي فراح يلوح مهدداً بالتدخل الدولي – فهمت بعد ذلك أنه يقصد ما يسمى التموين وحماية المستهلك – ورداً عليه أشعل السائق سيجارة وراح يدخن بهدوء. أنا في الحقيقة شعرت بالملل وخفت أن أتأخر عن عملي فيما لو طال أمد هذه الثورة، ففكرت بثورة مضادة، ورحت أنصت الى ما يقوله الرجلان ورائي عسى أن نتعاون لوضع حد لهذا الوضع، لكنهما كانا غارقين في تحليلاتهما، وكل منهما يضرب أمثلة على مظاهر الفساد في مؤسسته، وقد فهمت أن أحدهما في النفط والآخر في الكهرباء، وكلاهما يستنكران إفلات الفاسدين من العقاب.

لم يكن ممكناً أن يستمر وقوف السرفيس أكثر من ذلك، فرغم كل المناشدات الموجهة إلى ضمائرنا، لم يكن أي راكب منا على استعداد للنزول والمعاناة من جديد، عندئذ أخرج الرجل المستسلم خمس ليرات وقدمها للسائق قائلاً: (اتكل على الله، خلينا نمشي، كرمال هالناس…) تحرك السائق وهو يبتسم هازئاً، وارتفع صوت الراديو ثانية، لكني لم أسمع أغاني بل أكملت استماعي إلى محاضرة الرجلين المثقفين ورائي عسى أن أتنور قليلاً، والحقيقة أنني استفدت كثيراً، لأن رجل الكهرباء كان يعلّم رفيقه الطريقة المضمونة للسرقة من العداد، وبالمقابل وعده رجل النفط بتأمين بعض بيدونات البنزين بسعر نظامي، ليستنفع ببعض الليرات من بيعها لأصحاب السيارات!

العدد 1140 - 22/01/2025