ازدهار الفساد

كنت أتنزَّه قرب حديقة منسية لا يزورها إلاَّ بعض الطيور العاشقة، التي تجد فيها استراحة لاستعادة بعض الذكريات النائمة، التي شبهها بعض المتخصصين في شؤون الحدائق العامة بـ (الخلايا النائمة) التي حينما يشمُّ عناصرها رائحة الدماء يحملون سواطيرهم وأسلحتهم ويستعدون للذبح وقطع الرؤوس!

لقد أشبعت الأزمة في سورية دراسة وبحثاً، وتنوَّع الخطاب السياسي في التبيان والتحليل والنتائج. وجرت تحولات في حياة الناس على كل المستويات الفردية والعائلية والعشائرية والطبقية، وجرت تداخلات عنكبوتية في الديمغرافيا البشرية. وازدهر الفساد وأصبحت تربته أكثر خصوبة من السابق، وتضاعف إنتاجه مئة مرَّة. ومن الغرائبية أنني لم أصدّق ما تراه عيناي.. ظننت أن أحد لصوص الأحلام سرق بصري، وحرمني من رؤية أزهار الحديقة، ولكن ما جرى كان صحيحاً. فالياسمين الذي يشكّل سوراً آمناً تجذب رائحته العشاق والعاشقين إليه، في مساءات الصيف الحنونة الملتهبة بحرارة الوجد والحب النادر، مثل ارتفاع الدولار وأسعار البامياء والباذنجان والفليفلة الحمراء والفاصولياء والخيار!.. تبدّل..

وأصبح الياسمين شوكاً صالحاً لوخز الضمائر والقلوب، ربما يحنُّ أصحابها ويتنازلوا درجتين أو أكثر من سلّم الفساد، خاصة من أصحاب الأقلام السوداء الذين يدبّجون العناوين في بعض الصحف ويشتمون الآخرين.. ومن الذين يبيعون المسروقات بأسعار كاوية.. ومن الذين يتاجرون بدماء الناس ومعيشتهم..

ازدهر الفساد وازدهرت تجارة التوابيت والقبور في وطنٍ صامد يواجه أعتى عصابات الإرهاب والقتل على الهوية! ومن لا يصدّق هذا التطور التاريخي – الحضاري في أشكال الدفن عليه أن يقدم طلباً إلى مكتب الأموات وإلى حُرَّاس المقابر في دمشق، ليعرف كيف يُدْفن الفقراء وكيف يدفن الأغنياء؟ ليعرف أسعار التوابيت وأشكالها ونوع الحمَّالات (الحلقات) المصنوعة من الذهب من عيار مئة..! أو من النحاس والفضة..!

ليعرف كيف تؤجَّر القبور لأيام .. وإذا لم يدفع أهل الميت المستحقات الواجب تسديدها، يلقي أصحاب الذوات والفاسدون من تجار الموت، الميت ويرمونه خارج المدفن! ولا توجد مبالغة في هذا الكلام ولا أتجنّى على أحد،  فهذا حدث مع أحد الأصدقاء الأدباء، إذ أضطر أبناؤه أن يستدينوا مبلغاً كبيراً يقدر بمليون ليرة واشتروا قبراً لوالدهم .. وحتى هذا التاريخ ما يزالون يسددون الأقساط !

يقول الفاسدون (الصغار) الذين تعلَّموا من تجاربهم وتجارب غيرهم: (فُرْصة لا يمكن أن تفوَّت.. فاغتنمها؟!).. وهكذا يسير قطار الفساد محمّلاً بأصحاب الضمائر والأخلاق وجبابرة النهب والسلب وإبقاء المواطنين هياكل عظمية وسلخ جلودهم وتجريدهم من اللحم.. وعلى هذا الأساس، وكما بيَّنت تجربة السنوات الثلاث الماضية حسب الباحثين في الديمغرافيا البشرية وتطور الطبقات، أن طبقة طويلة وعريضة من الفاسدين المتمرسين على أساليب النهب والقهر والظلم، ابتلعت الطبقة الوسطى التي لم  يعد لها أي أثر في سورية! 

كل شيء سيئ يزدهر هذه الأيام .. جيوب تمتلئ من السرقة ونهب المال العام، وجيوب تظل خاوية جائعة هجرتها النقود ولم تعد إليها أبداً.. كل شيء يزدهر عدا الأخلاق التي يبيعها البعض بأبخس الأسعار من أجل كسب المال… وكل شيء يزدهر بينما الضمائر تضمر وتجف!

لقد اجتاز الفساد جميع الحواجز وقفز فوق القوانين والأعراف، وأصبح سلطان المال والحصول عليه باللف والدوران واتباع أحقر الأساليب والغش.. وصدق من قال: (الفساد في مرحلة الازدهار، بينما بقيت الأخلاق حُصْرماً رأيته في حلب…!).

العدد 1140 - 22/01/2025