لوركا: العبور من بوابة الموت إلى فضاء الشعر!
لم يزل يسري بنا صدى المقولة التي تقول: (نمشي وأكفاننا على أكتافنا، لأن طريق النضال يمر عبر بوابة الموت)!
كثيراً ما نستعير تلك المقولة للتعبير بواسطتها عن الموت كدلالة عندها تقف وتنتهي أشكال الحياة والأشياء كافة! ولكن النهاية في الحقيقة رؤية مجازية، تختلف تماماً بين كائن وكائن، وفكر وفكر آخر، وأمة وأمة أخرى، وكذلك في أصول المعتقدات والأفكار! ولكن الشعراء وضعوا صيغاً أخرى للموت، وشكلاً مختلفاً لذلك المسمى، بما يتفق ورؤية الشعر المختلفة للأشياء والمسميات ودلالات التعابير. إذ دلالة الموت في الشعر تعني شكلاً من أشكال الحياة الغامض والمجهول، وربما المنفتح على عوالم أخرى مختلفة، وغائبة، ولكنها موجودة ضمن فسحة المطلق البعيد! من هذه النقطة بالذات بدأ الشاعر فيديريكو جارثيا لوركا تصوره للحياة: خطوة باتجاه الشعر، وخطوة باتجاه الموت نضالاً، حيث تلتقي الخطوتان في النهاية: خطوة الشعر، وخطوة الموت في فضاء القصيدة اللانهائي، حيث المطلق والخلود البعيد والمجهول: يطلاّن من (غزلية الموت الأسود):
.. أريد أن أحلم حلم التفاحات
أن أبتعد عن ضوضاء المقابر
أريد أن أحلم حلم الطفل
الذي أراد أن يمزق قلبه
على البحر العالي..
خارج إطار الموت، كثيراً ما مرّ لوركا على نثرات الحياة الأخرى، فالشعر لديه طبيعة ملونة كأي شاعر آخر، إذ مر بقصائده: على الحقول، والأطفال والألوان، وغاص في جنون عشقه للأندلس، كواحد من شعراء العربية، إذ فتن بها إلى حد الصبابة والوله الشفيف الحزين.. وقد توزع الشاعر لوركا بين همين اثنين هما:
هم ما علق في ذاكرته استرجاعاً لتاريخ العرب في الأندلس، وما نزفت سيوفهم هناك من دم يروي أيام فتوحهم الغابرة زمن المجد والعنفوان.
وهم ما كان يختلج في صدره من أفكار نضالية ضد الطغاة والفاشيين، فقد كان يضع الموت في اعتباره دائماً، موت المناضلين عن الحرية، والقيم الإنسانية الخالدة! الموت والشعر المقاوم هما ما لزما لوركا طوال حياته:
لا أريد أن أسمع ما يتكرر على الدوام
من أن الموتى لا يفقدون دمهم
لا أريد أن أسمع:
أن الفم المتعفن لا يكف عن الصراخ طلباً للماء
لا أريد أن أعرف شيئاً عن العذابات التي:
يعدّها العشبُ، ولا عن القمر الذي لهُ فم ثعبانْ
حيث ينشط قبل طُلوع النّهارْ..
أريدُ أن أنامَ فترةً قصيرةً،
فترةً، دقيقة، قرناً، ومعَ هذا،
فليعلم الجميع أنني لم أمتْ!
تبقى إرادة الحياة عند الشاعر أقوى من الموت، ومع هذا فالهواجسُ عنده قلقلة، رافضة، متمردة، والأشياء يراها غير ما يراها الناس العاديون، ويعيشها أعمق مما يعيشونها، بواسطة تلك الصور والمشاهد التي يبثها لنا في شعره: العذابات التي يعدّها العشب، هكذا لم يعد يراهُ عشباً يمور بالخطر والحياة، والقمر الذي له فم ثعبان، إذ حوّله ليل الطغاة إلى ثعبان قاتل، وخلع عنه صفات الجمال كلها، تعب الشاعر، ونوم السكينة طلباً للراحة، ولا مجال للموت بعد.