الفيلم الكندي «ماما»… ظلم الخيارات وشجاعة الاختيار

يصقل ثالوث الظلم والقتل والتردد قبة اللعنة، أما ثالوث الرضا والمحبة والمواظبة، فيبطن الفردوس الأرضي، وبينهما تنوس متراجحة الخلاص بين الحذر والقبول. ومع بداياتنا الأنثوية والذكورية نسعى ونتصادم لنستوي أو ننكس، وبين حدي النور والظلام  نتبادل الأسئلة ونرسي لمعالم الأجوبة، فنغني ألوان حيواتنا وتبدلاتها.. وإلى إحدى تلك التبدلات الغامضة يأخذنا الفيلم الكندي الحديث ماما (mama)، في مزج ذكي بين الاستطالات العلمية والأساطير الشعبية ونكهة التجارب الصوفية.

يركز الفيلم بالدرجة الأولى على خطورة انحراف المعيار الأنثوي عن سياقه بوصفه القبول والعطاء، بوساطة عاطفة تعويض غريبة قامت بين شبح أم ثكلى وطفلتين صغيرتين قتلت والدتهما..ويكفل الدخول المباشر في الحدث للمخرج آندي موستشيتي ANDY MUSCHIETTI إيهام المتلقي بالتشويش، الأمر الذي يسهِّل إتلاف أيقونة التوقعات، والتفرغ لإيقاع الحدث، وصولاً إلى الخاتمة التي يفترض بها أن تنفتح باتجاه معين.

يفتتح الفيلم بمشاهد سريعة ترصد هروب أب شاب مع طفلتيه بعد مصرع والدتهما، وقيادته للسيارة بتهور على طريق ثلجي منعزل، وصولاً إلى فقدان زمام السيطرة تحت تداعيات جريمة القتل المجهولة الأسباب، وانتهاء بحادث يلقي السيارة في وهدة ثلجية منخفضة..ثم دخولهم كوخاً مهجوراً، وتهشم عدسة النظارة الطبية للطفلة الكبرى فيكتوريا، الذي يشير إلى تعطل الرؤية من إحدى الوجهتين الروحية/المادية، والتي تتحقق عند إقدام الأب على رمي النظارة بعيداً قبل شروعه في محاولة قتل الطفلة. وهي محاولة تتعثر بسبب شبح يطوق الأب المجرم ويقتله. لتبدأ مرحلة غامضة في حياة الطفلتين تستمر خمسة أعوام، تؤرخها فيكتوريا برسوم بدائية على الجدران، تصور أشكالاً أنثوية طفلية تدب على أربع.. ويمكن اعتبار خيار العمر للطفلتين: فيكتوريا (ثلاث سنوات)، وليلي (سنة واحدة) مناسباً تماماً لنوعية التجربة الروحانية الصعبة التي ستخوضانها. فالكبيرة ستجد العودة إلى عالم البشر أسهل بمجرد وضع النظارة، بينما الصغرى ستبقى على نمطها المتوحش الذي يجفل من الحضارة، ويصر على حالة التقوقع والمشي على أربع والتهام الطعام باليدين تحت الطاولة، والنوم تحت سرير الشقيقة. في إشارة إلى انتفاء الذاكرة الحسية المسبقة، الذي يترجم فعلياً باعتناق الظلام!

سيرة العمل الدرامي تبدأ فعلياً من لحظة العثور على الطفلتين، وعودتهما إلى الحياة الطبيعية مع شقيق والدهما لوكاسو وصديقته أنابل، ، التي تحاول الإنجاب فتفشل، لتجد نفسها في أتون تجربة غامضة ومخيفة في التعامل مع الطفلتين. لكن قبولها التدريجي بالتجربة وانغماسها في عاطفة الأمومة يمهد لبناء حاجز دفاعي منيع حول فيكتوريا لجذبها إلى الحضن الإنساني. لتغدو المشكلة صراعاً بين شبح امرأة ميتة وأم بديلة، مما يغلف الفيلم بطابع التشويق.. فالماما، وهو لقب الشبح، ترتبط مع الطفلتين بعلاقة عاطفية قوية تشكل تعويضاً عن الحرمان الذي لقيته في حياتها الإنسانية السابقة، بفعل موت طفلتها الرضيعة، مما أجج في نفسها حقداً ظل مشتعلاً في الروح بعد فناء الجسد. فعدم تحقق التجربة الإنسانية هنا وعدم قبول الروح بنوعية المصير حوَّلها إلى شبح يطالب بالاقتصاص. وفي هذه الحالة تم الاستناد إلى الإرث الشعبي لحل المشكلة، المتمثلة في حفظ عظام الطفلة في الأرشيف، مما يحتم على المعنيين إعادة العظام إلى الأم/ الشبح تخلصاً من اللعنة المرافقة لعدم دفن العظام. تتعقب الماما كل ما يمت بصلة إلى الطفلتين، بغية استعادتهما إلى عالمها المظلم، وتواصل زيارتهما واللعب معهما ليلاً عبر الخزانة… ثم تقتل الباحث عن الحقيقة في مكان الكوخ المنعزل. وتلاحق أنابل بخيالات سوداء مرعبة ترافقها حشرات العث.. كما تنجح في عزل لوكاس، بعد محاولة قتله في حادث وإدخاله المشفى. فيتوجب على أنابل البقاء مع الفتاتين. لتبدأ علاقة المحبة والصداقة مع فكتوريا، التي تحمي أنابل من أذى الماما. ومثل المشهد الذي تهرب فيه ليلي وتنام في الحديقة كأي حيوان متوحش ذروة جيدة للفيلم، إذ يُتوَّج بمحاولة مستميتة من الأم البديلة أنابل تدفئة ليلي العاقة من البرد. ودهشة ليلي بدفء اليد الممدودة نحوها، يعيد إلى ذاكرتنا فيلم الأطفال الشهير ملكة الثلج، حين يتجمد قلب الطفل فيؤلمه الاقتراب من دفء إنسان.

تتعرف أنابل على حقيقة الماما ومعاناتها كأم شابة يطاردها مجتمع ظالم حكم عليها بالنفي في ظلمات مشفى للأمراض العقلية، فتهرب بطفلتها بعيداً، إلى أن تفقدها عند الجرف.. ثم تطلّع على أبحاث العالم المتابع لحالة الطفلتين. فتحضر الصندوق الصغير الذي يضم رفات الطفلة لتعيده إلى الأم الثكلى، كي تسترجع حضانة الطفلتين.

تأتي لحظة المواجهة بين الماما وأنابل والطفلتين.. فتتغلب فكتوريا على نداء الماما وتختار أنابل، بينما ترفض ليلي دعوة أمها البديلة وتلحق بالماما في بهجة عارمة.. الانفصال بدا مؤلماً، لكنه أعطى الفيلم توجهه الخفي وبعده الروحاني المميز. أما حشرات العث التي رافقت الشبح فأشارت إلى إرث التجارب الحياتية الرثة. وفي هذه الحالة قدمت مزيجاً من الرعب والتشويق، فكانت أشبه بقرع الأجراس لمن أيقن وسمع.

صمود الأم البديلة بعد ترددها في البداية يترجم مفهوم الرضا بالمصير، ومحاولة استيعاب الدرس لا مقاومته بحماقة. بينما تعكس الرسوم الطفلية نكساً حزيناً وارتداداً عن الحالة السوية.. وتبقى حالة فكتوريا القلقلة التي تحمل الإرثين الروحاني والظلامي، مما يلزمها خوض الصراع الداخلي العنيف من أجل تخطّي الحذر والتوجس للعبور إلى الضفة الآمنة.

يغامر صناع فيلم (ماما) في أرض الاحتمالات، يخوضون رعب مواجهة العوالم الموازية، وحياة الأشباح الغاضبة الملتصقة بالقشرة الأرضية.. وهي تجربة إخراجية مميزة تضاف إلى رصيد السينما الكندية المعاصرة، وقفزة نوعية في صناعة الثقافة البصرية، دون أن نغفل أهمية الاستعانة بكاتب إسباني أغنى العمل بنص متقن،هيأ للمشاهد حزمة من المسارات المفتوحة على التكهنات البعيدة.

العدد 1140 - 22/01/2025