خواطر وذكريات عن سعيد حورانية (1من2)
حينما كنت منذ أيام في زيارة الأخ والصديق القديم عبد الله صباغ في مكتبه بجريدة (النور)، كان كعادته مشغولاً بالكتابة، وأنا ،حين أزور عادة، أحد الأصدقاء في مكتبه، لا أحب أن أثقل عليه أو أن أشغله عن عمله.
اسمح لي أن أريحك من عناء القراءة والكتابة خمس دقائق فقط.. أو عشراً على الأكثر ويستقبلني الصديق.. تفضل.. انتظر قليلاً حتى أنتهي من تدقيق ما بين يدي… وبانتظار الأخ الصديق من عمله مددت يدي من دون استئذان إلى مكتبه ساحباً كتاباً أنيقاً سميكاً.. يا للمفاجأة:.. ما هذا الكتاب يا أستاذ عبد الله؟ هذه صورة سعيد حورانية؟! الطفل الكبير.. هكذا كنت أسميه دائماً.. فأنا من المعجبين بقصصه من زمن بعيد.. واحد من المعجبين.
كان عنوان الكتاب: الأعمال القصصية الكاملة لسعيد حورانية.. من مطبوعات وزارة الثقافة عام 2005 وضمن مشروع نشر الأعمال الكاملة للأدباء السوريين، وللمفكرين السوريين العرب، مشروع رائع.. يُشكَر القائمون على تنفيذه.. وأخيراً.. من قال إنهم من وزارة الثقافة لا يقدّرون الناس حق أقدارهم، حتى ولو كانوا مختلفين معهم فكرياً؟! حيا الله كل من يضع لبنة في بناء الوطن الواحد والأمة الواحدة.
قال الأخ عبد الله رافعاً رأسه: هذا كتاب صدر حديثاً.. أرجو ألا يفوتك أمر شرائه.. وأضاف قائلاً: ليشجعني على الشراء: يباع هذا الكتاب من مركز البيع في ثقافي أبو رمانة.. بنصف السعر للمدرسين.
ولم أكن بحاجة إلى تشجيع.. فأنا منذ زمن بعيد من عشاق قصص سعيد حورانية وعندي مجموعة قصصه منجمة أما المجموعة الكاملة فشيء آخر.
كنت قد قبضت راتبي التقاعدي الهزيل.. يا بلاش: مئة وخمسون ليرة فقط لهذا الكتاب الضخم؟ واشتريت الكتاب.. واحتضنته مستعجلاً العودة إلى منزلي متشوقاً لإعادة قراءة قصص سعيد حورانية مرة ثانية.. إنها قصص حياة وطننا في تلك الفترة الخصبة من حياة سورية.. فترة الخمسينيات والسبعينيات.. قصة حياة أبناء جيلي وحياتي.
قصة الذين حاولوا بناء وطن وأمة.. وقصة الذين ضيعوا الوطن وأضاعونا معه..
أنتهي من قراءة عدة قصص.. تعيد إلى ذاكرتي أشياء وأشياء.. قصة المهجع الرابع.. من يوميات ثائر، وقصة حمد ذياب..
أنتهي من قراءة عدة قصص، أقبل الكتاب وأضعه فوق رأسي.. كعادتي حين أحب كتاباً أو كاتباً كعادتنا التي تعودناها جميعاً منذ الصغر حين نقبل القرآن الكريم ونضعه فوق رؤوسنا بعد قراءة بعض سوره. هذه المرة قبلت صورة سعيد المطبوعة على الغلاف، صورة الغلاف صورة شخصية لسعيد بورتريه من رسم الفنان التشكيلي الموهوب غسان السباعي.. شكراً لك يا غسان.. بورتريه رائعة. صادقة تمثل سعيد حورانية كما عرفته، بوجهه الطفولي.. وجه ابن الشعب.. ابن حي الميدان المناضل.. أتنهد بأسى.. ليت من عذّبونا وأذلونا كانوا عدوّنا الإمبريالي.. عدونا الصهيوني، لو حدث هذا لكان مقبولاً يمكن تحمله.. كان يمكن تحديهم ولو خفية : (معليش) فداء للوطن وكرمى لعيون الأمة العربية التي كنا نحلم بقيامها.. وطن حر وشعب سعيد.
كان هذا مطلب شباب جيلنا.. كان هذا حلمنا في ذلك الزمان.. حلم الشباب الذي كانوا يسمونه تقدمياً تارة ويسارياً تارة أخرى.. أو قومياً عربياً ثورياً مرة ثالثة.
الشباب الذي اعتقد في ذلك الزمان أن نهاية عصر الإمبريالية، عصر استعمار الشعوب ونهبها وإذلالها أقرب إليهم من حبل الوريد، فانقاد إلى حركات ومنظمات وأحزاب بعض زعمائها لم يكونوا فوق مستوى الشباب.. وبعضهم كان مرتبطاً بدوائر استعمارية خارجية.. وبعضهم الآخر كان جاهلاً لا يستحق لقب زعيم سياسي.
أما أن يكون من عذبونا وأذلونا وأهانونا هم رفاق الدرب فلم يكن باستطاعتنا تحمله.
أيها الشباب.. إذا أردتم أن تعرفوا حال المثقفين التقدميين في ذلك الوقت، حال اليساريين المعادين للإمبريالية والمنتمين إلى الشعب والمعبرين عن روحه فاقرؤوا قصص أولئك الأدباء الطليعيين.. إنها تعكس الواقع الذي عاشه شعبنا.. وعاشه الوطن بين عامي 1940 1970.
سعيد حورانية.. هذا الطفل الكبير.. كان رجلاً صلباً.. صلباً كالفولاذ الدمشقي الذي كانت تصنعه دمشق في غابرات السنين.. الفولاذ الذي كانت تصنع منه السيوف الدمشقية التي سحقت الفرنجة والمغول وطردتهم من البلاد.
كان إنساناً صافياً.. كان صاحب الابتسامة الخجولة.
كنت أعرفه من زمن طويل، هو من أبناء جيلي، وهو زميلي في المهنة: كان مدرس اللغة العربية وكنت مدرس تاريخ. تخرجنا معاً في العام نفسه 1952 -،1953 كنا من خريجي الدفعة الرابعة من معهد المعلمين العالي، وشاركنا معاً في حفلة (البراميل) التي جعلنا فيها رقبة أديب الشيشكلي وفوزي سلو كانا حاضرين في حفلة التخرج تقصر وتقصر وتقصر (قصة حفلة البراميل قصة ربما أرويها لاحقاً لأن أحداً لم يروها حتى الآن).
سعيد حورانية شاب متين البنيان، قصير.. مربوع القامة.. ميداني (من حي الميدان) أصيل.. يعني بالعربي الفصيح: ابن شعب.. يعني بلغتنا الشامية (زكرت).
كان أجمل ما فيه ابتسامته الطفولية.. ثم تواضعه وخجله حين تطريه، هكذا بدا لي، أو هذا هو انطباعي عنه.
كنا من جيل المدرسين المغضوب عليهم دائماً، لأنهم كانوا يخيفون طغاة ذلك العصر..
ما نجا واحد منهم من النقل التعسفي.. من درعا إلى الحسكة، ومن حلب إلى السويداء، ومن دمشق إلى تدمر.. وذاق كثيرون منهم مرارة طعم السجون في المزة وتدمر..
كان سعيد من جيل جمعه (أيديولوجياً) حب الوطن وحب الشعب وكره الظلم، ولم تكن أيديولوجيات سياسة الأحزاب القصيرة النظر قد فرقتهم بعد.
لم تكن صلتي به قوية.. كنت أعرفه من خلال قصصه، قبل أن يجمعنا سجن المزة العسكري، ولكنني كنت مسجوناً في مهجع المدرسة .. كنت مع الصغار.. وكان مسجوناً في العنبر رقم أربعة مع الكبار.. مع الأكثر خطورة.. كنت من حاملي الكلمة لجمهور الطلاب. كلمة محبة الوطن والشعب.. كلمة التعصب للوطن.. لا لهذا الحزب أو ذاك..
أما هو فكان إضافة إلى الكلمة، من حاملي القلم الذين ينقلون الكلمة لجمهور الشعب كله.
أذكر جيداً.. ذهبنا معاً إلى مؤتمر السلام العالمي في وارسو عاصمة بولونيا عام 1955.
كنا من أنصار السلام.. عصبة أنصار السلام التي كان يقودها المحامي.. نصير السلام الرائع، الذي لم ينصفه محبوه حتى الآن، هناك عرفته عن قرب.
أنا ذهبت إلى المؤتمر بحيلة: كنت تواقاً إلى الذهاب إلى هذه (الأوربا) التي كانت تشغل مخيلتي دائماً وتشعلها.. فلقد قرأت كل شيء عنها.. ودرست تاريخها في الجامعة.. وعرفت سر تقدمها وسيطرتها على العالم.. عرفت تاريخ طغاتها وأحرارها. وقرأت كل ما وصلت إليه يدي من روائع أدبائها وآدابها وفنونها.
في ساحة المرجة، ساحة الشهداء، حيث يقوم الآن فندق سمير، كان هناك مكتب صغير لأنصار السلام.. أحد الناشطين الذين أعرفهم فيه هو الأستاذ المربي والزميل عبد الكريم محلمي، كنت أعرفه من بعيد، كان زميلي في مهنة التعليم، ونحن ندرِّس المواد الاجتماعية التي يعرف مدرسوها بعضهم بعضاً.
أستاذ عبد الكريم سمعت أنكم تحضِّرون لتشكيل وفد من أنصار السلام من مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية.. من المثقفين والأدباء والفنانين المؤمنين بالسلام ومن الكارهين للنظام الإمبريالي.
صحيح وبماذا أستطيع أن أخدمك؟
أرشح نفسي للمشاركة في هذا الوفد، فهل تقبلني؟ لم يرشحني أحد.. لا حزب ولا منظمة.. لا أحد.
ولأغريه بقبولي قلت له: سأكون مفيداً لكم… ستحتاجون إلى من يترجم لكم في لقاءاتكم مع الوفود الأخرى.
وافق عبد الكريم بعد تردد.. ولكنه وافق.. كان أرق إنسان ومن ألطف الناس الذي عرفتهم، كان يحاول، لا أدري مع من، أن يشكل وفداً يضم كل الناس الطيبين.. كل الناس الذين يكرهون الاستعمار، ويؤمنون بالسلام، بصرف النظر عن انتماءاتهم.
حضِّر جواز سفرك.
وتسللنا كاللصوص من مرفأ اللاذقية إلى اليخت الملكي الروماني الراسي، كان يختاً لملوك رومانيا ثم تحول إلى يخت يركبه العمال والفلاحون والمثقفون.. كان يخت الملوك المعادين للسلام، والآن يركبه المحبون للسلام.
أطلقوا عليه اسم يخت الحرية… على ظهر هذا اليخت كان الركاب مجموعة من الطليعيين السوريين مثقفين وعمالاً وفلاحين.. وبعض الإخوة والأخوات الأردنيين، واثنين أو ثلاثة من أكراد شرقي الأناضول.
كانت رحلة خيالية.. ألف ليلة وليلة.. من اللاذقية على البحر المتوسط إلى كونستانزا على البحر الأسود.
هناك تعرفت عن قرب على سعيد حورانية.. خلال الرحلة كنا (شللاً) تحولت معرفتنا السطحية ببعضنا بعضاً إلى صداقة: نقاشات، أناشيد وطنية، موسيقا..
كان الجميع ينظرون بإعجاب إلى العزيز شوقي بغدادي.. إلى العزيز سعيد حورانية.. إلى الفنانين الكبار.. إلى الدكتور محمد الرفاعي.. إلى ذلك المغني الشعبي معن الدندشي، إذا لم تخنّي الذاكرة.
في القطار من كونستانزا إلى فرسوفيا عبر رومانيا وتشيكوسلوفاكيا، وخلال توقف القطار في بعض المحطات كانت اللقاءات مع الشبيبة، الورود والخبز والملح، الكل كانوا يهتفون للسلام.
في القطار كنت محظوظاً حين ضمت (الكابينه) التي أركبها، على مدى ليلتين، فنانين كباراً: ميشيل كرشة، الرسام التشكيلي الانطباعي الكبير، رحمه الله ما أخف دمه، وما أعذب أحاديثه! وعبد العزيز النشواتي، الرسام الواقعي الرصين. وميلاد الشايب الهادئ الصموت، ونصير شورى الحالم الذي يحسن الإصغاء والمشاركة، وأخيراً عدنان قره جولي.. الذي سحر الصبايا البولونيات فيما بعد بسمرته الشرقية.
الحديث عن مؤتمر السلام العالمي في فرسوفيا حديث طويل.. وطني وإنساني وسياسي. مرت الأيام سريعة.. كنت من رواد المركز الثقافي السوفييتي لحضور إحدى المحاضرات أو لرؤية أحد المعارض أو أحد الأفلام السوفييتية.. السينما السوفييتية رائعة وإنسانية وواقعية.. كالأدب الروسي.. أدب القرن التاسع عشر… أدب ليو تولستوي وغوغول وبوشكين وليرمنتوف وتشيكوف وغوركي.. أدب إنساني يتوجَّه إلى الإنسان أينما كان.. كان كذلك في عهد النضال ضد الحكم الأوتوقراطي وظل كذلك في ظل الحكم السوفييتي.
كان سعيد حورانية هناك دائماً.. لا بد من إلقاء التحية عليه، فمكتبه الصغير كان على يسار الداخل من الباب الرئيسي مباشرة.. لم أكن أعرف ما هي وظيفته ولم أسأله عن ذلك أبداً.. ولم يكن على مكتبه أية أوراق.. لا بد من الجلوس عنده عدة دقائق وقد تجد عنده أحد أصدقائك أو معارفك أو زملائك.
كنت أرى الحديث معه شرفاً لي.. كما لو أنك تجلس لتتحدث مع غوركي.. أو ناظم حكمت، أو نزار قباني، ولم نكن نتحدث في السياسة.. بعض الأحاديث عما سيقوم به المركز من نشاطات ثقافية، هذا الفيلم أو ذاك، وهذه المحاضرة أو تلك.. أو هذا الكتاب أو ذاك.