صياح الجهيّم الغائب الحاضر… مترجماً ومبدعاً وأديباً

قال صياح في إحدى كلماته ( إن الإنسان أعظم تعقيداً من أن تلخصه  بضع كلمات). وهل نستطيع  تلخيص شخصية صياح الجهيم المبدعة وحياته الحافلة بالعطاءات وإرثه الثمين ببضع كلمات؟

ولد صيّاح الجهيم في محافظة السويداء عام ،1929 ونال إجازة في أدب اللغة العربية عام ،1953 وأرسل في بعثة إلى فرنسا بعد عام للتفوق في اللغتين الفرنسية والعربية، وعمل مدرساً حتى أوائل السبعينيات، وشارك في وضع المناهج للمرحلتين الإعدادية والثانوية وفي تأليف الكتب المدرسية ومراجعتها. وترجم منذ عام 1976 حتى عام 2000 ثلاثين عملاً أدبياً وفكرياً. ومن المؤلفات المترجمة من مطبوعات وزارة الثقافة: امرأة ظلال الشعور أندريه مالرو (ترجمة وتعليق)، قضايا الرواية الحديثة جان ريكاردو (ترجمة وتعليق)، الرومانسية في الأدب الأوربي، مجلدان بول فان تيغيم  (ترجمة)، الثورة الفرنسية، كلمات جاك بريفير (ترجمة وتعليق وتقديم). أوريليان أرغون (ترجمة)، إفيت  وقصص أخرى (ترجمة) موباسان. الحرب والسلم: الجزء الثالث والرابع (ترجمة)  تولستوي، آنا كارنينا ثلاثة مجلدات (ترجمة) توليستوي، البعث مجلدان (ترجمة) توليستوي، حكايات شعبية (ترجمة)  تولستوي، الأعمال المسرحية (ترجمة) تولستوي، نقد الحداثة مجلدان (ترجمة) آلان تورين.

 وهناك كتب أخرى من تأليفه.  فقد ألف ثلاثة كتب عن حنا مينه وخليل مطران ورامبو. ويرى أن رامبو عاش حياة قصيرة عاصفة أشبه بالأسطورة، قام بمغامرتين:

 الأولى مغامرته الشعرية التي امتدت أربع سنوات أو خمساً، إذ قدّم كل نتاجه الشعري في هذه السنوات، فكانت أربعاً وأربعين قصيدة. وله نصوص: (فصل في الجحيم) نثرية، وقصائده (الإشراقات النثرية). ثم صمت بعد ذلك صمته الأدبي النهائي. وشهد رامبو قيام الكومونة في 18 آذار 1871 في باريس، وكان إلى جانب الكومونيين أيضاً. وكان لسقوط الكومونة أثر كبير على رامبو، إذ أخذت تنهار أحلام الحب الشامل الذي بشر به في قصائده الأولى.

 والمغامرة الثانية المؤثرة هي لقاؤه الشاعر الرمزي (فرلين) في باريس، ونشوء تلك العلاقة المريبة بينهما. ورأى آخرون أن انغماس رامبو في اللهو والمجون وإسرافه في  تناول الحشيش والخمر وفي السهر إنما كان من أجل خلاص الشعر وبلوغ المجهول والعودة إلى البدائية لابن الشمس. وفي قصيدته (خجل) يبلغ به الخجل من ذلك الماضي حدود التدمير الذاتي. وخجله مزدوج، فهو خجل من تلك الحياة العابثة التي عاشها مع فرلين متحدياً ما تعارف عليه الناس، وخجل من نفسه باعتباره شاعراً أعلن على الملأ أن  مهمة الشعر هي الكشف والتدمير والتغيير، وأن الشاعر مبشر ونذير، وأنه يجب أن يستبق بشعره العقل.

ونجده في هذه القصيدة يتمنى لو يستأصل السيف دماغه بما ينتج من أفكار هي (البخار)، ذلك الدماغ (مالم يستأصل النصل هذا الدماغ / هذا السفط الأبيض، الأخضر والسمين / ببخاره الذي لا يتجمد البتة / مالم يعمل النصل برأسه / والحجارة بخاصرته / واللهيب بأمعائه / فإن ذلك الولد المزعج / ذلك الحيوان الأحمق / لن يكف لحظة عن الاحتيال والخيانة).

 وفي كتابه ( ملامح من حنا مينه) منشورات إيبلا 1989 نجد صياح الجهيم يسترجع حنا مينه في (بقايا صور) صوراً من طفولته الأولى، فيرى الدكتور علي القيم في معرض تقديمه لهذا الكتاب أن هذه الصور تثير جوانب شتى من رواياته الأخرى، ذلك أن الكثير من عناصر هذه الصور موجود في تلك الروايات على نحو من الأنحاء. ولا شك أن هذه الصور تنتمي بمادتها الأساسية إلى الماضي لكن الحاضر والمستقبل ماثلان فيها. ونلحظ في هذا الكتاب رؤية الكاتب إلى جانب رؤية الطفل. وتعكس هذه الصورة حبه وشغفه بالعدل وإيمانه بالإنسان وتعلقه بالحرية. ويمكن تصنيف الصور في (بقايا صور) بحسب الشخصية التي ترسمها الصورة، مثل صورة الأم والأب والخال. ويمكن تصنيفها بحسب المكان الذي تعيش الأسرة فيه،  في حقل قرب السويدية، ثم في (قره أغاش). وقد تصنف بعض الصور بسبب الموضوع الذي يتصدّرها إلى جانب عناصر أخرى، مثل لوحة اللقاط، ومشهد الخيرية وعملية تربية دودة القز.

وتتفتح نفس الطفل للاتصال بالطبيعة عندما تكشف الطبيعة عن وجهها الحقيقي الواقعي. ويشير صياح الجهيم إلى العنصر الثاني: الأسرة، من خلال صورتين  تركتا آثاراً واضحة في الصبي، هما صورة الأم وصورة الأب.

 فالأم هي الصورة المركزة المضيئة في النص، وشخصيتها تبرز كاملة في كل مرة تبرز فيها. فقد أحدق بها وبأولادها الأذى وهي لا تظهر إلا لترد ذلك الأذى، فالأم فيض من الحنان والمحبة والشجاعة والصبر والإصرار على الحياة، ويرى المؤلف أن صورة الأم عند حنا مينه من الصور التي أغنت  الأدب العربي.

أما شخصية الأب فكانت أقل وضوحاً تظهر هذه الشخصية من خلال الارتحال المكاني والعاطفي، أي التنقل بين الأمكنة والمهن والنساء. ونقرأ حكم الابن  على الأب بقوله: ( ولست ألومه على شبقه المرضي مادام ليس مسؤولاً عنه، ولا على سكره، والدي في السكر كان يغرق تعاسات دنياه).

والعنصر الثالث هو المجتمع: رسمت الصور عالم المظلومين ممثلاً بالأسرة وصفاً دقيقاً، محزناً ومثيراً. فالأم تلوب باحثة عن رغيف خبز أو حفنة من طحين، والفقراء يساقون إلى السخرة كالعبيد، والدرك يقتلون امرأة كان الإقطاعي قد قتل زوجها، في هذا العالم غابت الحرية .

إن بقايا صور تنتهي بصورة النار المشتعلة التي أشعلتها زنوبة  في مستودع الحبوب، وهذه النهاية الفنية بشارة بغد جميل، وانفتاح على رواية جديدة، وإيذان بتفتح الوعي، وسوف نحصل على ذلك التفتح في رواية ( المستنقع).

 ومن الأبحاث النقدية المهمة للأديب صياح الجهيم  بحث في حداثة الشكل في الشعر العربي الحديث، فهو يرى أن حداثة الشعر الحديث هي مجموعة من القيم المعنوية والفنية  والثورة على الأوزان التقليدية قيمة من بين تلك القيم. ويرى أن بعض النقاد يجعلون من الحداثة فلسفة أو مفهوماً شاملاً أو موقفاً من الكون والمجتمع والإنسان. ويصورون الحداثة كما يحبون أن تكون، لا كما هي عليه في شعر اليوم. بل إن خصائص الحداثة مستخرجة من الشعر الحديث الراهن، أو من خير نماذج هذا الشعر . فالحداثة عنده معاصرة قبل كل شيء على مستوى الإبداع الشعري. فالشاعر الحديث مسكون بعصره، إنه يعيش مشكلات العصر وأفكاره بل وأشياءه.والحداثة نظرة جمالية. إنها خلق مستمر،فهي لا تؤمن بالقواعد الثابتة والنماذج المسبقة والقوالب الجاهزة.وهي تبحث عن الأشكال والأساليب والطرائق الفنية الجديدة الملائمة لطبيعة العمل الفني ولتفرد الشاعر.والجميل في نظر الحداثة هو الجديد بل المدهش الغريب.

والأستاذ صياح الجهيم  كان قمة في عطائه، وتمثل في عشرات المؤلفات ترجمة وتأليفاً، وشكَّل ظاهرة منفردة على  المستوى الثقافي والفكري وعلى المستوى الإبداعي، وعلى المستوى الخلقي والإنساني، وقدرته على المحبة تجلت في حب طلابه وحب أسرته وأبناء وطنه، ومحبته للغة العربية وعشقه لهذه اللغة. فقد وهب عمره لإيصال الوعي والمعرفة إلى طلابه، واستطاع تجسيد المُثُل والقيم الإنسانية بواسطتها،كما نلحظ تمسكه بمقومات العروبة والوطنية من خلال حب الوطن ورفض مظاهر التعصب.

ونلمس نزوعه الإنساني إلى العدالة والاشتراكية وتفانيه وإخلاصه لمبادئ الاشتراكية وحلمه بالمجتمع الإنساني القائم على العدل والحرية والتقدم بعيداً عن الاستغلال والظلم. فكان صياح الجهيم تنويرياً عقلانياً إنسانياً، له علاقات واسعة بالناس على مختلف أطيافهم ومستوياتهم. كما عرف بصفاء نفسه ورحابة صدره فهو صاحب الخلق الرفيع  والعواطف الكريمة، فهو رمز لعطاء دائم. له فضل  كبير في نشر المعرفة والثقافة من خلال ثقافته الواسعة، وعمله مترجماً ومؤلفاً وشاعراً ومفكراً.

 ويقول الشاعر شوقي بغدادي:(حين أتذكر صياح الجهيم الآن  لا أدري لماذا أُغفُل عن المثّقف التقدمي، أو المعلم المحبوب، أو المترجم الدقيق، أو المؤلف النابه فيه، مع أنه كان كلها  بامتياز. وربّما لهذا السبب ذاته لن يتذكر صياح الجهيم كشخص استثنائي إلاّ الذين عرفوه عن قرب. أما الآخرون الذين لم يعرفوه شخصياً فقد يستغربون اهتمامنا به . وتلك هي مهمتنا، نحن الذين عرفناه عن قرب أن نحسن الحديث عنها، وعندئذ فقط سوف ينتبه الآخرون إلى أهمية ما فاتهم إذ لم يعرفوه مثلنا….).

العدد 1140 - 22/01/2025