طبيعة تعامل الشركات متعددة الجنسية مع البلدان النامية

سعت البلدان النامية منذ حصولها على استقلالها إلى تحقيق تنميتها وبناء اقتصادها، إلا أنها وجدت نفسها مكبلة بقيود عدم تحقيقها لاستقلالها الاقتصادي رغم حصولها على السياسي منه. فمواردها محصورة بيد الشركات متعددة الجنسية العملاقة، وكذلك فإن متطلبات تنميتها من تكنولوجيا متطورة لا تتوفر إلا عند تلك الشركات. هذه الظروف وغيرها أوصلت هذه البلدان إلى الدوران في فلك التبعية للشركات متعددة الجنسية، راغبة أو رافضة، وربما دون أن تشعر.

تعرف التبعية، بأنها وضع مكون من سلسلة كاملة من المراكز والتوابع تربط معاً أجزاء النظام الرأسمالي بأكمله من مراكزها الرئيسة إلى أبعد موقع في العالم، وكل من هذه التوابع يعمل كأداة امتصاص لرأس المال أو الفائض الاقتصادي من التوابع إلى المراكز المحيطة بها، ومنها إلى المركز العالمي للنظام الرأسمالي بأكمله. وإن أي نمو تحققه الدول النامية في إطار هذا النمط من العلاقات إنما هو نمو تابع لا يملك الحركة الذاتية أو صفة الديمومة) (1).

تستخدم الشركات متعددة الجنسية عدداً من الآليات لتعزيز وإدامة تبعية البلدان النامية (وبضمنها البلدان العربية)، وتخلق كل آلية من هذه الآليات شكلاً من أشكال التبعية. تعد آلية المشاركة واحدة من أشكال هذه الآليات، والتي نجمت عن اضطرار الدول النامية إلى التعامل مع الشركات متعددة الجنسية نتيجة لنقص رؤوس الأموال والمهارات الفنية للطرف الأول مما أدى إلى استمرار استنزاف الفائض من الدول النامية على شكل تحويل أرباح هذه المشروعات إلى الخارج.

كما كرست آلية التصنيع من أجل التصدير تبعية البلدان النامية، فما إن قامت هذه البلدان بوضع سياسات تنموية تطور قطاعها الصناعي كي تحد من وارداتها من الخارج، حتى فطنت الشركات متعددة الجنسية إلى ذلك، وسخّرت جانباً كبيراً من استثماراتها للصناعات التصديرية، وخاصة في تلك البلدان التي تتوفر فيها المواد الأولية الرخيصة أو الأيدي العاملة، وتعتبر بلدان جنوب شرق آسيا خير مثال على ذلك، وبذلك تتمكن الشركات متعددة الجنسية من إعادة نشر الصناعات بحيث تقلل من تكاليفها وتحد من مخاطر البيئة في المركز الأم، وتحكم سيطرتها على السوق والتسويق، وبذلك تضمن معدلات ربح عالية. أما البلدان النامية فتزداد تبعية بسبب اعتمادها على الخارج، وتتشوه هياكلها الاقتصادية.

تستخدم الشركات متعددة الجنسية آلية أخرى لتعزيز تبعية البلدان النامية تعرف باسم التبعية التكنولوجية، والتي تعاني منها الدول النامية قاطبة دون استثناء، الأمر الذي يحرمها من اختيار التكنولوجية الملائمة لها بسبب افتقارها لتصنيع أدوات الإنتاج، وكون تكنولوجيا الشركات متعددة الجنسية مصممة أصلاً للسوق الراسمالية. وقد تتضمن عقد (نقل التكنولوجيا) قيوداً على عمليات التصدير، فتخضع نشاطات البلدان النامية إلى مخططات الشركات متعددة الجنسية في مجال اقتسام الأسواق العالمية والتقسيم الدولي للعمل بصفة عامة. كما يتحتم على البلدان النامية الالتزام بشراء مستلزمات ومعدات إنتاج من مصادر معينة (من الشركة الأم وفروعها في الخارج). مما (يعطل نمو علاقات الترابط والتشابك بين العناصر المختلفة للجهاز الإنتاجي على مستوى المنطقة الواحدة) (2).

تعاني البلدان النامية من عجز مزمن في حجم الاستثمارات المطلوبة لأسباب شتى. ومما لا شك فيه أن المصدر الرئيسي لهذه التدفقات هو السوق الرأسمالية التي تمثل الشركات متعددة الجنسية جزءاً مهماً منها، وبالتالي يستمر تكريس تبعية هذه البلدان عن طريق آلية القروض مختلفة الآجال. وكما هو معلوم فإن هذه القروض لا تقدم إلا وفق شروط وتسهيلات معينة تتقدم بها الدول المقترضة للمانح.

تضاعفت ديون البلدان النامية منذ عام ،1980 وشكلت القروض طويلة الأجل منها نسبة عالية تفوق الـ 80%. وتأتي القروض طويلة الأجل من مصادر رسمية وغير رسمية، يدخل ضمنها المودرون وقروض المصارف التجاري والسندات والاستثمار الأجنبي المباشر واستثمار الحافظة، وتبلغ حصة المصدر الرسمي الآن نحو 40%.

ويقصد بالموردين وائتمانات التصدير، تلك القروض الائتمانية التي تقدمها، الشركات وكبار المصدرين وغيرهم من الموردين لتوريد السلع وخدمات للبلد المقترض. وقد شكلت هذه الفقرة حصة مقدارها نحو 12% من إجمالي التمويل الخارجي للبلدان النامية مثلاً (3). وتبسط الشركات متعددة الجنسية سيطرتها على هذا الشكل من الاقتراض نتيجة لسيطرتها على السوق الرأسمالية. وبالتالي فإن هذه الشركات تضع الشروط التي ترتئيها على البلد المقترض، من تحديد نوعية شراء السلع أو تحديد اتجاه الاستثمارات غير ذلك من الشروط.

أما ما يتعلق بالاقتراض من المصارف التجارة العالمية، والتي ترتبط بشكل أو بآخر مع الشركات متعددة الجنسية، فقد شكلت نسبة 24% من إجمالي التمويل الخارجي في الظرف الحالي (4). وتميل نسبة هذا الاقتراض نحو الانخفاض باستمرار.

والجدير بالذكر أن الاقتراض من المصارف العالمية يكون عالي الكلفة، لأنه يتم على أساس سعر فائدة معوم، إضافة إلى الشروط التعسفية والمكلفة التي تصاحبه. ومما لا شك فيه أن عملية الفصل بين قروض المؤسسات متعددة الجنسية والمصارف متعددة الجنسية تكون صعبة ومعقدة إن لم تكن مستحيلة نظراً (للترابط والتشابك بين المجموعات المالية العالمية والشركات متعددة الجنسية (5).

مما تقدم نجد أن حجم القروض قد تزايد تزايداً ضخماً خلال فترة وجيزة من الزمن، كان من شأنه إعادة علاقات التبعية والهيمنة على البلدان النامية التي تكبدت، إضافة إلى قروضها، خدمة أعباء الدين التي وصلت إلى أرقام كبيرة.

إن تزايد حجم الديون يحتم المزيد من الشروط المجحفة بحق الدول النامية بالسداد والجدولة وغيرها، إذ تفرض هذه البنوك والشركات اتباع سياسات مالية ونقدية محددة تتمثل في تخفيض قيمة العملة الوطنية وإلغاء الرقابة على الصرف، وإزالة القيود أمام الواردات، وتخفيض الإنفاق العام بتقليل حجم الاستثمارات ورفع أسعار الدعم مما يسبب ضغوطاً اجتماعية داخل هذه البلدان.

يقابل ذلك بروز الاستثمار الأجنبي المباشر كمصدر حيوي في التدفقات المالية الدولية، حيث استعاد دوره السابق، وأضحى البديل الرئيسي للإقراض الخاص. وأصبح القوة الدافعة للاندماج المالي الدولي بزيادة الشركات متعددة الجنسية. ولا يخفى ما لهذا النمط من الاستثمار من مخاطر وصعوبات، إذ إن تدفقات الاستثمار الأجنبي تؤدي إلى تحويل أرباح بمبالغ كبيرة. كما يمثل الجانب الأكبر من الزيادة في تدفقات الاستثمار عودة رؤوس أموال كانت قد هربت من البلد وليست زيادة حقيقية في الاستثمار الأجنبي. ويلاحظ تركزه في بلدان محددة، وخاصة البلدان متوسطة الدخل والغنية نسبياً، كذلك فإن مساهمة الاستثمار الأجنبي المباشر في استخدام العمالة الفائضة في الدول النامية لا يزيد في أحسن الأحوال من 2% من مجموع السكان النشيطين، والأدهى من ذلك فإن ما يعادل 97% منه يبقى في الدول الصناعية (6). لذا فإن تفوق الاستثمار الأجنبي المباشر الخاص على المصادر الرسمية ولأول مرة منذ عقد من السنين تعاظم المخاطر النسبية للدول النامية.

1ـ النصيرات، محمد صادق نهار، صفحة 139-148.

2ـ محمود عبد الفضيل، النفط: المشكلات المعاصرة للتنمية العربية، سلسلة عالم المعرفة ـ ص. 186-187.

3ـ رمزي زكي. أزمة المديونية الخارجية ـ القاهرة ص 322.

4ـ المصدر السابق نفسه.

5ـ النصيرات ، محمد صادق نهار، ص 158.

6ـ باسل البستاني: تمويل التنمية البشرية في الوطن العربي، ص 4.

العدد 1140 - 22/01/2025