المبالغة في كشف صيرورة العمق الإنساني
هل توجّب عليك يوماً أن تحاكي خيانة أو خديعة، شركها العش الزوجي، رغم إدراكك أنك مشوب بتقصير عائلي كضريبة لنجاحك المهني، وأيضاً شريكك من كان يتهمك بإهماله عاطفياً بات رهيناً لعدّاد الموت.
وإذا كان للتساؤل دور صميمي في حكّ عود كبريت، كي ننير، ولو إنارة خافتة، غياهب وكُنه النفس الإنسانية في علاقاتها وصراعاتها. فبتقاطعات مصيرية ذات صلة عاطفية ذاتية وإنسانية قد تهدد وتمزّق رجلاً يقف عند مفترق حياته، ومستقبله، وعائلته. وكما أراد المخرج ألكسندر باين ، في فيلمه الخامس هذا 2011 يجد الأب، الزوج، الرجل مات كينج، نفسه في مواجهاتٍ اجتماعية،نفسيّة، إشكاليّة،بعد أن تعرضت زوجته لحادثٍ في سباقٍ للزوارق البحرية، لتصبح قعيدة فراش مشفى، ترزح تحت وطأة المجهول في غيبوبةٍ، يعيش على أمل استيقاظها منها وإن طال الأمد.
هو محامٍ ناجحٌ في عمله، وسليلٌ لإحدى أغنى الأسر الإقطاعية، وريثٌ مع عددٍ من الأقارب للكثير من أراضي هاواي الرائعة في جمالها، حيث تجري أحداث الفيلم. وهو ذو الدور الثانوي في تقدم المجريات، إذ كان مطمَعاً للورثة لبيعه والحصول على الملايين الكثيرة. وعلى الرّغم من أنّ هذا المحور يلعب دوراً هاماً رغم ثانويته في تطور المسار النفسي للزوج في نهاية الأحداث إثر امتناعه ورفضه البيع بعد أن استطاع الوصول إلى بر الأمان في التصالح مع نفسه ومصيبته، وأيضاً فجيعته في الخيانة. فإن المشاهد لن يستطيع أن يميل بتركيزه عن شخصية الأب الناضجة قلباً وقالباً، من حيث تعامله مع الحدث الذي يدير القصة، عندما يخبره الطبيب أن زوجته قد لا تصحو أبداً من غيبوبتها، وهي في عداد الأموات.
هذه الصدمة حملّته وعاتقه مهمة صعبة تتمثل بلم شمل الأصدقاء والعائلة، ليخبرهم بتطورات وضع الزوجة، الابنة، الصديقة، رُغم أنه كان يشعر بتهميشه الأبوي يجد نفسه مجبراً على الاهتمام بابنته كوستي ذات السبع أعوام، والمراهقة الأخرى العنيدة ذات السبعة عشر ربيعاً. فبعد عودتها إلى المنزل وضعت المشاهد في إرباك معين، لدى اعترافها لأبيها، عندما شرح لها وضع والدتها، بأن أمها كانت تخونه مع رجلٍ آخر. دوى هذا الاعتراف بكيانه، وزاد الطين بِلّة، الانتقال إلى حالة من الفوضى. وعندما حان وقت إطفاء أجهزة الحفاظ على حياة الزوجة، وجد مات نفسه أمام إنسانيته، أمام رغباتٍ تقوّضت فرصها بالنجاة. مستقبل أُجهض قبل الشروع بحمله في رحم الأمل. مما يثير التساؤل: هل من الضروري أن تكون الحقيقة الفاجعة محمولة في نعش من أحببنا يوماً، أن نبني ضريحاً لفجيعتنا فوق رفات أحدهم؟ قد يوحي ما سبق أن الفيلم من نوع التراجيديا الحالكة، لكن على العكس تماماً، ورغم جديّة القصة إلا أن الطابع المرح والكوميديا السهلة لا تفارق ثيمة العمل بالمجمل، وخصوصاً أن الفيلم عائلي بامتياز.
تبدأ أسس اللّبنة الأخلاقية، بالظهور في تربة المحورين الرئيسين، عندما يجد الأب نفسه مضطراً للبحث وبمساعدة ابنته الكبرى، عن عشيق زوجته الغارقة في غيبوبتها، للتعرف عليه كي يرضي قلقه الثائر حول رجولته، بعد إلحاحها عليه ومطاردته من الداخل بأنها قد جُرحت. وعندما رأى العشيق سأله بكل هدوء وطيبة دون أيّة لكمة أو حتى تعنيف محتمل: هل أحبتك، أو أحببتها؟ هل شاركتها فراشي أنا؟ في أداء لا يخلو من الدعابة، ساعد به الأداء المميز والراقي الذي أدّاه جورج كلوني، وهو السبب وراء ترشيحه للأوسكار عن جائزة أفضل ممثل دور أول، وخصوصاً أن ظاهر الشخصيات التي يرسمها ألكسندر باين تكون في الغالب كما كل أفلامه، متواضعة القالب، إلا أنها تغلي بنيران تفاعلها الداخلي، سواء على صعيدها الذاتي، أم على مستوى التفاعل مع المجتمع وأفراده.
فكان من شان هذا التداخل الخلاق أن يضمن للمخرج كرسيّاً في شتى المهرجانات العالمية، إذ يُشهد لأفلامه الرواج لا لنجومية أبطاله وتاريخهم الذائع الصيت، بل الحرفية العالية قلباً وقالباً، هي من تصم أفلامه بنجاحاتها لدى النقاد والجمهور. وهذه المرة أيضاً لأنه كتب سيناريو الفيلم بنفسه، إذ أبدع مرة أخرى في رسم شخصية تقارب الصدق والعمق الإنساني بصورة قريبة جداً، من حيث تخبّطها ما بين الرغبة في التسامح ولذة الانتقام والطيش، رُغم النُضج والتّعقل، لنراه يصر ويؤكد على العمق الإنساني. وكم هو مذهلٌ عندما يتم اكتشافه وسبره، ليشدد على ذلك في مشاهد الفيلم الأخيرة عندما يخاطب الأب زوجته الراحلة عن الحياة.