فلسطين أقوى من الموت.. 31 عاماً على مذبحة صبرا وشاتيلا

لمَ حدثت المجزرة؟

لمساءات أيلول أن يتجاوب فيها رجع لزمن مديد من إرهاب أسود واغتيال حاقد لذاكرة ووجود. لمساءات أيلول نكهة فلسطينية ترجع بالصدى لما يحدث فعلاً من وقائع متصلة المغزى، منفصلة الأمكنة، سوى من زمن (كرونولوجي) تتبدل على مسرح يومياته الأسماء والعناوين، لكن الجريمة قائمة بالفعل، لا اعتداد بأدواتها، بقدر ما نشير بأصابع رؤيتنا إلى من هم وراء المسرح وكواليسه، وإن استدعى الأمر أن يظهروا بمحض حماسة حمقاء وغرور أصفر تحت (شمس) حقيقتهم العارية! هكذا.. تعود بنا الذاكرة بالتفاتة ذات معنى إلى واحد وثلاثين عاماً، أي إلى يوم الخميس السادس عشر من أيلول، وامتداداً إلى صبيحة السبت في الثامن عشر من أيلول عام ،1982 لما شهده تاريخنا لواحدة من فصول الهمجية الكبرى التي تجسدت في مذبحة العصر  صبرا وشاتيلا  وبدلالة ما مثلته من فجيعة إنسانية، وما مثله توقيتها، وما استتبع من ترجمة لأهدافها المضمرة والمعلنة بآن. والرصاصة التي كانت تبحث عن صدر أو ظهر، والسكين التي شطرت الوجوه، والبراءة التي اغتُصبت تحت جنح الظلام، والأجساد التي سُحلت في شوارع مخيمَيْ صبرا وشاتيلا، والجدران التي ثقبها الرصاص كي لا تشهد، والأشجار التي انحنت بأسى لو أنها لم تر، الصبية المرتعدون  النائمون قسراً، والغول طليقاً وحسب أنه يرتوي من دم الأشجار ومن ماء القلوب وبعثرة الجهات، وحدهم من نجوا شهدوا أن الموت مرَّ من هناك، لكنهم رأوا القتلة من ذئاب الميليشيات كيف يلغون في الدم الفلسطيني والعربي، وحارس الجريمة، يقف على بضعة أمتار يهيئ مسرحها ويهتف: (الغوييم يُقتَلون)!

ليست تلك الصور، كثافة جريمة واحدة، حسبها المشترك المؤسسي منذ دير ياسين ،1948 وكفر قاسم وقبية ،1953 وأيلول، وتهويد القدس.. وو.. شريط يمتد من ماضٍ أسير لحاضر موجوع. كانت صبرا وشاتيلا في زمنها بالذات، أفقاً يتسع ويكتمل، ليظل الفضاء قانياً أضاءته أقمار شهداء صعدوا تلك الليلة وذلك النهار، إذ لم يمت شهودها حارسو حقيقتها، شهداؤها المجلَوْن يستعيدون الحكاية الدامية، تسللوا تحت جنح الظلام. سمعنا أصوات الرصاص، أضي المخيم بالقنابل الضوئية، هدوء رهيب عند الصباح، وحملت بقية النهار تراجيدية الحكاية وما خلَّفه ذئاب الأرض ومسوخ الكائنات، من مشاهد الفاجعة، حملت التاريخ على أن يخفض رأسه خجلاً، وسط ارتباك القطا وفزع العصافير، ومواء القطط التي بحثت عن ظلال لتختبئ، وسط فزع الهواء ذاته كيف لوثته عشرات المسوخ بروائحها النتنة وأنفاسها الحامضة وخطاها الملعونة.

يا لخيط الدم المرئي، كيف يرسم خريطة الوجع فينكأ الذاكرة ويخضّبها بآه تحرق براري النسيان.

خرائط أخرى لنزف تحت جلد السؤال: أنبحث  في برهة الاستذكار  عن القاتل المجهول المعلوم، وعن القتيل الباذخ الوضوح، القتيل قضية.

شُبِّه لهم أنهم ذهبت بمن انطوت حيواتهم، وشبه لهم أنهم (عاقبوا) و(ثأروا) من رحمٍ أنجب من أسست جمهورية فلسطين في برهة من مجد  الشهيدة الأيقونة دلال المغربي ورفاقها المنتجبين، وأنهم (ردوا اعتبارهم) من رجال المقاومة الفلسطينية واللبنانية الذين صنعوا مجد بيروت عام 1982؟!

وبوسع الشهود أن يسردوا ما حدث، وبطريقة أكثر طزاجة، لا تجفف دمعة الأمس، بل تفجرها مقاومة، ليتسنى لها أن تظلل أرضاً غرس في صلبها الشهداء بالريحان والورود وترتب صورهم على جدران القلوب ومسارب الشرايين، لتبلل الأرض بشذا النشيد فليست سماؤنا رخامية بلا أسماء تطير إليها لتغدو سرب غيمات يختزن الغضب للآتي.

وعبثاً كان تقرير لجنة كاهان، يحاول انتزاع النصر للضحية باسم الوازع الأخلاقي، وهو يساوي بين الضحية والجلاد ويبرر الخطايا في باطن الكلام، ويستدرُّ في ظاهره عواطف عابرة.

يقول  التقرير  في البند 98: (بين الردود على اللجنة كان هناك البعض ممن عبَّروا عن عدم الرضا لفتح تحقيق في موضوع لا يرتبط مباشرة بمسؤولية إسرائيل، والحجة التي قدمت هي أنه في مجازر سابقة في لبنان قتل أكثر مماقتل في صبرا وشاتيلا!).

فيما يهتف الجنرال الصهيوني دروري لشارون: يتقدم أصدقاؤنا داخل المخيمين، نظمنا دخولهم.. تهانينا!

ويصرح صهيوني آخر هو مردخاي تسيبوري: (الأهداف لم تتغير، أن يُطرد الفلسطينيون من أراضيهم ومن وطنهم، وأن يحذفوا كشعب).

ولم يعد للصهاينة وأدواتهم، مطاردة (وحوش الغابة) كما تصوَّرهم ذات يوم ثيودور هرتسل، بالأسلحة القديمة  السهام  بل بالأسلحة الحديثة البارعة الفتك والإيذاء!

صبرا وشاتيلا، درس تاريخي، ما زال يلهم ذاكرة المقاومة، لتبرع بانتفاضة عام 1987 وتطرح على الوعي أسئلة الذات المقاومة، ثقافة لا تستنفد يومية  مستقبلية، خلاصتها أن ثمة شعباً تحت شمس هذه الأرض ما زالت نساؤه يلدن  كل صباح، وما زالت العصافير تبني أعشاشها في الأعلى، وما زال الصباح ينثر حروف الحكاية لصبرا وشاتيلا وأخواتهما لذاكرة قادمة ويمتد الشهداء جذوراً للسنديان وللزيتون، فلتشعل الرياح عاصفة الذكرى لقيامة فلسطين الأقوى من الموت والنسيان.

العدد 1140 - 22/01/2025