إيران.. من الصمت الاستراتيجي إلى الصراخ الاستراتيجي

د. نهلة الخطيب:

منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة خطيرة لم تشهد لها مثيلاً منذ زمن طويل، ولا أحد قادر على التكهن إلى أين يذهب بنا الإعصار الذي يضرب المنطقة. وجود إسرائيل واستمرارها قرار دولي، وبقاؤها مرهون ببقاء أمريكا في الشرق الأوسط، يقدم لها الأمريكيون والغرب أكثر الأسلحة تطوراً، وفتكاً، وقد شاهدنا ذلك أثناء الهجوم الإيراني على إسرائيل وبعده، فهل كان بإمكان الوسائل الدفاعية الإسرائيلية صد مئات الصواريخ الباليستية والمسيرات، لولا تحالفٌ رأس حربته أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وحتى الأردن، البلد العربي الوحيد الذي أسقط معظمها قبل وصولها إلى أهدافها؟؟ وكيف هب الغرب كله للمشاركة، أو للتنديد، وفرض عقوبات، حتى بدا وكأن إيران تضرب عواصمهم!! ورغم تفوقها العسكري كدولة أنتجتها المصالح الغربية، لكنها أوهى من بيت العنكبوت، فالمقاومة الأسطورية للفلسطينيين في غزة أذهلتهم، بعدما كان نتنياهو ينتظر رفع الرايات منذ الأيام الأولى للحرب، الأمر الذي لم يحصل ولن يحصل.

بالنظر للموقع الجيواستراتيجي الحساس لإيران بين الشرق الأقصى، وهو حلبة صراعات، والشرق الأوسط الغني بالموارد والطاقات، فقد أكدت مكانتها كقوة سياسية وعلمية وعسكرية، وشهد الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة ظهوراً قوياً ومتجدداً لإيران على المشهد العراقي والسوري واليمني واللبناني، وهناك شبه مواجهة عسكرية بين من تدعمهم إيران والقواعد العسكرية الأمريكية بالمنطقة، وكانت بمواجهة مع إسرائيل التي شكلت تحالفاً مع السعودية والإمارات لمواجهة النفوذ الإيراني في أعقاب حرب اليمن ودعم إيران للحوثيين، (وإن لم يكن علانية في بداية الأمر).

مشكلة إسرائيل مع إيران ليست فقط في القدرات والسلاح النووي، وإنما في طموح إيران لأن تكون قوة اقليمية مؤثرة في المنطقة، ومنافسة لإسرائيل في مجالها الحيوي الذي تريده ضعيفاً مسالماً وتكون لإسرائيل الصدارة العسكرية والتكنولوجية، فنجدها تسعى دائماً إلى تضخيم الخطر النووي الإيراني، للتملص من أي استحقاقات سياسية اتجاه القضية الفلسطينية، وتغطية جرائم الحرب والانتهاكات الخطيرة والإبادة الجماعية الممنهجة التي تقودها ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة، وجلب المزيد من الدعم العسكري والمالي من الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن أن توازنات العالم في حالة تغيير متسارع، وإيران جزء من الاستراتيجية التي تعمل على إلغاء القطبية الأحادية، وكأن المنعطف الذي بدأ منذ الحرب الأوكرانية، وانفصال روسيا عن الغرب، وشاركت فيه الصين، يُستكمل بإيران.

انتهى الصمت الاستراتيجي وبدأ الصراخ والدفاع عن النفس، فكان الرد الإيراني على الإسرائيليين بليلة أمطرت مئات الصواريخ الباليستية والكروز، ومئات المسيّرات، والموجّه إلى قواعدهم العسكرية ومنشآتهم الاستراتيجية، في أول هجوم إيراني مباشر على إسرائيل، منذ أربعين عاماً، بعد تحذيرها مراراً، ولم يكن الرد مفاجئاً، كان مسبق الصنع والسمع، هذا ما أوضحه وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان، أن بلاده أبلغت واشنطن بأن الضربة ستكون محدودة، ولا ترغب إيران بتوسيع الحرب، لكن المفاجأة كانت من إسرائيل وحلفائها، وطريقة استعدادهم لاستيعاب أي ضربة عسكرية، كل القواعد العسكرية البرية، والبحرية، وحاملات طائرات، وطائرات مسيرة في أوربا، والمنطقة العربية، كانت بالمواجهة، إيران فعلت ما تستطيع، وبحسابات دقيقة ولكنها بدت وحيدة، رغم أن التحالف الاستراتيجي بين روسيا وايران والصين بأعلى مستوياته، فروسيا مشغولة بالهمّ الأوكراني، والصين للصين!!

حرب عالمية مصغرة، حدودها عدم الانجرار إلى حرب إقليمية واسعة، تغيير قواعد الاشتباك ما بين الطرفين بوسائل محدودة وزمن محدود، ورسالة واضحة لإسرائيل، إذا تجاوزت الخطوط الحمراء، والتمادي في اللعبة الخطيرة إلى ما هو أبعد، أن إذا أرادت إيران أن تهاجم بشكل أقوى ستفعلها، هناك رسائل من قبل كل الأطراف، وصلت ويجري التعامل معها، لا أحد يريد إعادة تجربة العراق في إيران، ولا أحد يريد حرباً مفتوحة، لأنها ستفتح حرباً نووية، لن يخرج أحدٌ منها منتصراً إطلاقاً.

ولكن هناك استعداد لقيام إسرائيل بضربات عسكرية للمواقع الإيرانية، فكان الرد على الرد في أصفهان، إسرائيل بحكومتها المتطرفة ليس لديها مصلحة بأي هدوء في المنطقة، عملت منذ وصول بايدن إلى السلطة على إفساد أي تقارب أمريكي إيراني، وعطلت المفاوضات في فيينا والدوحة، فهي المسؤولة عن وصول إيران إلى هذا المستوى من التخصيب، ففي عام 2015 كان مستوى التخصيب الإيراني أقل من 4%، ولمدة 3 سنوات كانت إيران ملتزمة بتعهداتها اتجاه وكالة الطاقة الذرية، إسرائيل دفعت ترامب للخروج من الاتفاقية، وأدى ذلك إلى ما نحن فيه الآن، لن يتوقف نتنياهو عن لعبته ومحاولاته جر أمريكا إلى مواجهات أوسع، وإذا كان لابد من تحديد خاسر ورابح، تبدو غزة أوضح الخاسرين!؟

العدد 1105 - 01/5/2024