صحوة إنسانية.. أم تعويم انتخابي؟

د. نهلة الخطيب:

ثمة تراجيديا حدثت وتحدث في غزة، فالمشروع الصهيوني مستمر، بل ويتعاظم، وقد وصل إلى حد الجنون، 155 يوماً من القتال استخدمت فيه شتى أنواع الأسلحة، وأخيراً دخل سلاحٌ جديد وهو التجويع. الفلسطينيون (أمة الآلام)، قاوموا وصبروا، ولكن أن يموت أبناؤهم أمامهم من الجوع، هذا ما يصعب على الإنسان تحمّله، إذ لم يكتفِ الاحتلال وداعموه من أمريكيين وأوربيين، بارتكاب كل الموبقات، نهب، وتخريب، وإبادة جماعية، وتهجير وترحيل كعقوبة جماعية، وانتهاك للأعراف والقوانين الدولية. في تصريح ليوآف غالانت (وزير الدفاع الإسرائيلي) قال: (نفرض حصاراً كاملاً على غزة، لا ماء ولا كهرباء ولا طعام ولا غاز، … فنحن نقاتل البرابرة)، فهم يرون في الجثث المكدسة في الشوارع، أو تحت الأنقاض ضرورة إلهية لتطهير (أرض الميعاد) من تلك الحيوانات البشرية.

بايدن الذي أرسل إلى نتنياهو كمية من القنابل يتعدى مفعولها قنبلة هيروشيما، لا يضغط لوقف إطلاق النار، بل ويعطّله بالفيتو، وحين يستشعر مدى التداعيات الكارثية على مصالحهم الاستراتيجية إذا ما مضت إسرائيل في حربها على غزة، يفاجئنا بصحوة إنسانية لإنقاذ الفلسطينيين، عبر الإعلان عن ممر بحري لإدخال مساعدات انسانية إلى غزة، بقيت غامضة، وليست هناك أية تفاصيل، أسئلة كثيرة تدور حولها، فهل هذا هو حل الأزمة في غزة؟؟ ولماذا عرقلت إسرائيل كل المساعدات التي تصل عن الطريق البري، باعتراف المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، بأنها الأهم والأسهل على إيصال المساعدات؟ ولماذا وافقت إسرائيل على الممر البحري؟؟

الاتحاد الأوربي وأمريكا، لا يريدان ممارسة الضغط الحقيقي، بل على العكس يريدان تنفيذ الخطط الإسرائيلية والالتفاف على الحل الحقيقي، أوربا لا تريد التدخل بشكل مباشر، كل ما في الأمر هو تقديم مساعدات إنسانية، والحديث عن اليوم التالي وآفاق السلام. فون ديرلاين بالاتفاق مع الإمارات فتحت ممراً بحرياً للمساعدات بين غزة وقبرص، وجرى إرسال أول سفينة إسبانية، محملة بأطنان من المواد الغذائية، أوربا ستعمل عبر الوكالات الأممية، فهل لهذه الوكالات الامكانيات العملية واللوجستية لاستلام هذه المساعدات وتسليمها؟؟

ويؤكد وزير الخارجي البريطاني كاميرون أهمية هذا الممر المؤقت، وأنه يحتاج إلى وقت لتنفيذه، ودعا إسرائيل إلى فتح ميناء أسدود لاستقبال تلك المساعدات ونقلها إلى غزة، لماذا واشنطن ولندن تحديداً، ربما لأنهما من صنعتا الدولة العبرية في منطقة تتمتع بحساسية جيواستراتيجية عالية، قابلة جداً للانفجار بعد الهستيريا الدموية على أرض غزة، جعل العالم يستشعر الخطر الذي تشكله عصابات تقترب أكثر فأكثر من الأزرار النووية.

قد يكون هذا الممر وسيلة لتعقيد المشكلة أكثر من حلها، وهناك مخاوف على قدر الآمال، الآمال بتخفيف المعاناة عن المحاصرين في غزة، والمخاوف حول كيفية إنشاء هذا الممر دون التدخل الإسرائيلي، وإسرائيل تؤكد أن البضائع القادمة من قبرص ستخضع لمعايير التفتيش الإسرائيلية، فسنعود إلى نقطة الصفر، فلا أحد يعلم ما هو المسموح، وما هو الممنوع بالنسبة لإسرائيل. لا يوجد في غزة بنية تحتية لاستقبال هذه المساعدات، ولا يوجد ميناء بالمعنى الحرفي، هناك ميناء صيد صغير، فكيف سيتم نقل هذه الكميات الكبيرة من المساعدات إلى الشاطئ، من سيقوم بالتحرك ما بين السفن الكبيرة والشاطئ، إذ لا يوجد مؤسسات ومنظمات فاعلة على الأرض إلا ما ندر، والأونروا التي تسعى إسرائيل إلى تفكيكها ونزع الصدقية عنها، ربما أشخاص سيكونون على تواصل مع إسرائيل، إذاً هاجسهم مما يفعلونه إنقاذ إسرائيل، وتحقيق مخططاتها، لا الفلسطينيين، وتمهيد الطريق إلى حكم غزة، بعيداً عن السلطة وعن حماس، وهناك خطط لتحويل هذا الممر إلى ممر للتهجير وليس تقديم مساعدات، فإسرائيل تحدثت عن تهجير وإعادة احتلال غزة ومجموعة من الأهداف منذ بداية الحرب، وبالرغم من أن الجميع استنكر ما تخطط له إسرائيل، إلا أنه لم يتخطَّ الضجيج الإعلامي، ولكن ما يحدث في غزة يؤكد ما تنوي إسرائيل فعله وهو يسير في هذا الاتجاه.

التحرك الدولي تحت غطاء المساعدات الإنسانية، وكل ما يجري هو استغلال الحاجة الإنسانية للالتفاف على الحلول الحقيقية، ما سمعناه بخطاب بايدن عبارة عن تمنيات ونصائح من قبل أصدقاء، هو يتحدث عن أمر مروّع، لا يصب في مصلحة الفلسطينيين على المدى المتوسط والطويل، عملية دعاية انتخابية في أمريكا كما أوربا، أكثر منها دوافع إنسانية. بايدن يحاول تحسين صورته أمام الناخبين المسلمين، بعد أن أدى انحيازه المطلق لإسرائيل إلى إغراقه انتخابياً وسياسياً، وخاصة بعد ما حدث في الثلاثاء الكبير أمام ترامب الذي لا نتصوره أقل إسرائيلية من بايدن، فلا أحد يكترث بنا كعرب وكفلسطينيين، بل بكيفية إزالة آثارنا ودفننا. الأمريكيون الغارقون في الأزمات الداخلية والأزمات الخارجية يتدخلون باسم الإنسانية لحماية إسرائيل وخروجها منتصرة، لإحكام السيطرة على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين بإرادتهم عبر قبرص، وبعد ذلك يتوزعون على أوربا وكندا وأستراليا ونيوزلندا.

التخاذل العربي يتفاقم أمام جريمة الحصار والتجويع والمجازر، فحياة مليوني فلسطيني مهدّدة تحت مرأى ومسمع العربي القريب، الكل يشير إلى معبر رفح، وإلى مصر المعنية بغزة، والتي تعاملت معها حتى الآن وفق الإرادة الإسرائيلية، فالحرب عليها لا محالة، حرب لتدمير مصر وتفكيكها وتجويعها تمهيداً للسيطرة عليها. الإمارات جزء من هذه المؤامرة بعد أن اشترت إسرائيل نصف مصر باسم الإمارات، ليضمّوا رفح مع سيناء مع مصر، ثم يأتي الأردن فكيانه مهدد، ونظامه عاجز عن حماية نفسه، لتحقيق حلم (إسرائيل الكبرى).

مهما كانت المغريات والمحاولات، ومهما كان هناك من ترهيب أو ترغيب، الفلسطيني خلق ليعيش ويموت ويدفن في فلسطين، بعد التجارب التي مر بها الشعب الفلسطيني أحلاها كان حنظل ومرار في اللجوء والنزوح، وكأن الفلسطينيين هم الذين وفدوا من أصقاع الدنيا لاغتصاب الأرض، واقتلاع أهلها، وكأن المقاومة ليست نتاج مئة عام من الاحتلال والمجازر والاعتقال، لكي ينتقد الإعلام الغربي العقوبات الجماعية بحق أهل غزة، أبعد بكثير من أن يكون ثأر برابرة! أهو سقوط الرأي العالمي أم سقوط العالم؟!!

العدد 1105 - 01/5/2024