عنترة.. والطبقة البرجوازية

د. أحمد ديركي:

يزخر التاريخ العربي، ما قبل الإسلام وما بعده، بالشخصيات البطولية. وهي شخصيات واقعية لا أسطورية. والبُعد الأسطوري المرافق لهذه الشخصيات يتعلق بالقصص البطولية الأسطورية المندمجة ببطولاتهم المروية. فعلى سبيل المثال، مواجهة واحد من هذه الشخصيات جيشاً بمفرده! أو امتلاك آخر من هذه الشخصيات معرفة وقدرات ذهنية تفوق زمنه…

وعنترة بن شداد إحدى الشخصيات البطولية في التاريخ العربي. وما زالت هذه الشخصية البطولية، والأساطير المرافقة لها، حية إلى هذه اللحظة في الفكر العربي. والدليل على أن عنتر_ حسبما يلفظه كثير من الناس_ ليس بالشخصية الأسطورية يمكن استنتاجه من الروايات التاريخية والسلوكيات الإنسانية والأفكار التي كان يحملها. فقد أحبّ عنترُ ليلى، ابنة عمّه، وقاتل من أجل حريته والاعتراف به كشخص له كيانه ضمن عشيرته. فقتاله وبطولاته لم تكن من دون هدف أو غاية. بل غاية بطولته تتمثل في الاعتراف به كفرد حر ضمن عشيرته.

استطاع عنتر أن يحقق هدف الاعتراف به من خلال أفعاله البطولية. الأمر المثير للانبهار في قصة عنتر هو أنه ينتمي إلى طبقة فقراء القبيلة، فلم يكن عنترة سيداً في قبيلته، ولم يملك مركزاً سياسياً مرموقاً، أو ثروة، أو مركزاً اجتماعياً ورثه عن أبيه، أو نسباً (شرعي) يتفاخر به. فهو فقير في قبيلته، ولا يعترف به أبوه لأنه ابن جارية، ولون بشرته أسود!

رفض عنتر كل هذا الذلّ الملصق به واستطاع أن يتحرر منه. وهنا يمكن القول إن تحرره من كل هذا الذل المرفق به كان خارج كل الاعتبارات السياسية، واعتبارات أصحاب الثروة، أو حتى اعتبارات أصحاب المراكز الاجتماعية الموروثة. فالهدف الأول لعنتر تمثل بحريته والاعتراف به كإنسان له كيانه ضمن عشيرته. ولم يطمح للخروج عنها ليؤسس كياناً سياسياً عشائرياً يكون ندّاً للعشيرة التي ينتمي إليها، ولم يطمح لامتلاك ثروة أو…

شخصية تمثّل في أبعادها البطولية البُعد التحرري للإنسان المقهور الساعي لتحقيق حريته عبر الوسائل المتاحة له آنذاك.

بكونه شخصية حية حتى اليوم، في الفكر العربي، يمكن أخذه كنموذج تحرري، مع تغير الظروف، ليمثل مقاومة شعب يقاتل من أجل حريته.

فما يجري حالياً في فلسطين، من بطولات أسطورية، تتشابه في مجرياتها مع ما فعله عنترة في زمنه. شعب شبه أعزل يواجه العالم، المعلن العداء له، إضافة إلى أنظمة تعلن نصرته، وتخونه في الخفاء. فالولايات المتحدة الأمريكية، المصنفة أقوى قوة في العالم، تزود الكيان الصهيوني العنصري بأحدث الأسلحة، ليذبح بها أبناء الشعب الفلسطيني المقاوم. ولا يتوقف الأمر هنا. ففي العصر الراهن هناك قوانين دولية وغيرها من القوانين التي تمنع جرائم الحرب، ومعظم الموقعين على هذه القوانين يغضّون النظر عن هذه القوانين، أو حتى لديهم الوقاحة على تعطيلها بالعلن. فالعالم الغربي بانظمته السياسية، برمته، يدعم الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة الأمريكية تدعو علناً للاستمرار بقتل الشعب الفلسطيني، ولكنهم يدعون إلى قتله (برأفة). بينما هناك من يدّعي أنه يدعم الشعب الفلسطيني علناً، لكنه فعلاً يخون الشعب الفلسطيني ويدعم الكيان الصهيوني. وهذا ما تفعله خصوصاً معظم الأنظمة العربية! فالأردن على سبيل المثال لا الحصر لم يوقف تصدير الخضروات للكيان الصهيوني بذريعة (اتفاقيات التبادل)، ومصر لم تفتح معبر رفح، والاغتيالات من قبل الكيان الصهيوني للشعب الفلسطيني تذهب إلى أبعد من فلسطين، ويجري اغتيال قادة وشخصيات فلسطينية وغير فلسطينية على أراضي دول تتغنى بالسلطة والسيادة على أراضيها ولا تضع حداً لهذه الاغتيالات ولا تردع هذا الكيان عن فعلته.

وها نحن نشهد يومياً، بل ساعة بساعة ودقيقة بدقيق، قصفاً على الشعب الفلسطيني بالأسلحة الأمريكية الصنع، بواسطة جيش صهيوني، ودعم أنظمة (عربية) لقتل شعب (عربي). شعب يقاتل من أجل حريته من كيان محتل، يقاتل من أجل حقه في الحياة الكريمة، شعب يقاتل من أجل حقوقه المحقة، شعب يقاتل من أجل أرضه، شعب يقاتل من أجل حق العودة. ألم تكن هذه أهداف عنترة بن شداد عندما قاتل؟

قاتل عنترة من أجل كل هذا، لا طمعاً بالسلطة ولا طمعاً بالجاه، بل طمعاً بحريته. والشعب الفلسطيني يقاتل يتشابه مع عنتر في أهداف قتاله. وسوف يبقى عنتر حياً في الفكر العربي لأنه لم يتلوث بالمركز السياسي، ولا المالي، ولا الاجتماعي المرموق. وقد يكون انتماؤه لخارج هذه الطبقة السلطوية، هو ما جعل عنترة نقياً يقاتل من أجل حريته. وقد يكون بقاء الشعب الفلسطيني نقياً في قتاله وبطولاته لأنه خارج كل الحسابات السلطوية السياسية وحالياً ما يعرف بمصالح الطبقة البرجوازية أينما وجدت في العالم العربي أو خارجه. فنضال وبطولات الشعب الفلسطيني تتلوث عندما تختلط بالحسابات البرجوازية.

العدد 1104 - 24/4/2024