شرق أوسط جديد.. فهل ينقلب السحر على الساحر؟
د. نهلة الخطيب:
لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط أحد الأهداف الحيوية للدول الكبرى، بل وأحدَ أهم أسباب نزاعاتها، ويعود ذلك لأهمية هذه المنطقة الجيوستراتيجية في حركة السياسات الدولية.
بعد هجمات 11 أيلول عام 2001 وبعهد إدارة جورج بوش الابن، انطلقت فكرة شرق أوسط جديد، سوّقت لها وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كونداليزا رايس، في الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 عندما قالت: (إن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب)، والمقصود أن يصبح الشرق الأوسط الجديد منطقة تتألف بغالبيتها من دول ديمقراطية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية وإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة ودمج إسرائيل فيها بتشجيع عمليات التطبيع مع الدول العربية لرعاية مشاريعها الجيواقتصادية للسيطرة، وتخضع بها الأنظمة غير المتعاونة الى عقوبات مباشرة أو فرض عقوبات أحادية الجانب كقانون قيصر المطبق على سورية، أو الضغط عليها من خلال تقديم الدعم لحركات معارضة أو باستخدام التدخل الانساني R2P كما في ليبيا، أو باستخدام القوة للإطاحة بها كما حدث في العراق وأفغانستان.
طبعاً ما بعد هجمات أيلول ليس كما قبلها، بدأت المخططات بالظهور والتنفيذ، فالشرق الأوسط تغير بشكل كبير وشهد تحولات وأحداثاً مؤلمة وعنيفة، وفشلت أجندة الحرية التي كانت تروج لها الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يشهد الشرق الأوسط ثورات ديمقراطية ناجحة (ثورات الربيع العربي) وإنما تأثر سلباً بالسياسات الأمريكية، وتفاقم الإرهاب وأحدث كراهية عمياء إزاءها كردة فعل على الدور الذي أدته في المنطقة طوال عقود من الزمن، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط تواجه تحديات كبيرة أولها تحدي الانتشار النووي الذي يبلغ ذروة خطورته في إيران، وثانيها الصراعات السياسية الداخلية التي أشعلتها أمريكا كجزء من برنامج تحولات ديمقراطية، ثم تراجعت عنها مما أدى الى زعزعة المصداقية الأمريكية والتشكيك بنواياها الحقيقية تجاه المنطقة، وأخيراً تزايد الصراعات المذهبية، وهذه التحديات ترتبط بثلاث ساحات لا يمكن الفصل فيما بينها، الأولى، العراق وإيران، التي تشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأمريكية في المنطقة، والثانية: لبنان وسورية ساحة غير مستقرة، وبسبب أهميتها الجيوسياسية قد تؤثر على دول الجوار والسياق الاقليمي، وأخيراً الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي يشكل عائقاً يعرقل تعاون أمريكا مع الأنظمة الصديقة في المنطقة، وبقي هذا الصراع بلا حل بعد أن تم شرخ المقاومة الفلسطينية مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية عليها، وبضربة استباقية لطوفان الأقصى، الهجوم الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول على إسرائيل فرضت واقعاً جديداً أربك مخططات العدو السياسية والديموغرافية والاقتصادية وأثبت عجز المنظومة الدفاعية للجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
ومع بدء الحرب التدميرية الشاملة على غزة، ظهرت الرؤية الإسرائيلية الأمريكية من جديد حول مفهوم الشرق الأوسط الجديد عندما توعد نتنياهو بتغييره، وهو يحاول تنفيذ مخطط إسرائيل القائم منذ عدة عقود والرامي إلى طرد الفلسطينيين وخاصة القاطنين في قطاع غزة وتوطينهم في سيناء، وهذا سيتبعه طرد الفلسطينيين في الضفة الغربية وباقي الأراضي المحتلة ولا مكان لحل الدولتين مع إنجاز مشروع التطبيع مع البلدان العربية. وقد نشرت صحيفة (الفايننشال تايمز) حول الاتصالات التي أجراها نتنياهو مع زعماء أوربيين للضغط على مصر لاستقبال فلسطينيي القطاع، في محاولة لاستغلال تأزم الأوضاع الاقتصادية في مصر وتسوية وجدولة ديونها وصولاً إلى إلغائها، واستغلال حالة الدعم الدولي اللامحدود لإسرائيل من قبل أمريكا والدول الأوربية وخاصة أنه لا يوجد إلى الآن أي أفق لحل سياسي ووقف إطلاق النار.
طوفان الأقصى على غرار ما بعد 11 أيلول سيترك بصمة بارزة على العالم بشتى المستويات الجيوسياسية والجيواقتصادية وخاصة منطقة الشرق الأوسط، والذي ربما يتسع نطاقه بالمنطقة ويفشل مشروع مارشال للشرق الأوسط الذي اقترحه شمعون بيريز عام 1986 لتأمين الاستقرار في المنطقة حسب التخطيط والمصالح الصهيونية لدمج إسرائيل بـ(شرق أوسط جديد) والهيمنة عليه اقتصادياً وأمنياً لخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية، وتحويل أموال الخليج إلى الأسواق الإسرائيلية المالية والمتجسد في الممر الاقتصادي الذي أُعلِن عنه في قمة العشرين، ممر لنقل الشحن البري ومسار لسكك حديدية، إضافة إلى أنابيب نفط وغاز وهيدروجين تعزز أمن الطاقة العالمي وشبكات ضوئية لنقل البيانات والإنترنت والذي يربط الهند والشرق الأوسط وصولاً الى إسرائيل ومن ثم أوربا بدعم أمريكي أوربي بما يعزز التبادل التجاري ويخفض التكاليف النقل ويعزز فرص التنمية في المنطقة التي يمر عبرها ويتكون المشروع من ممرّين، ممر شرقي يربط الهند بدول الخليج وممر شمالي يربط دول الخليج وخاصة السعودية والامارات بأوربا عبر الأردن وإسرائيل، طبعاً الامارات المستفيد الأكبر لزيادة نفوذها الاقتصادي في المنطقة وخاصة أنها منفذ الخليج للبضائع الإسرائيلية، واتفق على خطة عمل خلال 60 يوماً منذ إعلان المشروع في أيلول الماضي في خطوة التفافية على الفناء الخلفي الروسي ومحاصرة طرق الصين وامتدادها وقطع طريق طهران بغداد وصولاً إلى السويداء ودرعا لقطع طرق الإمدادات لقطاع غزة والضفة الغربية تمهيداً للقضاء على المقاومة الفلسطينية، وكان لهذه الحرب أهداف استراتيجية اقتصادية مرتبطة بتمرير المشروع عبر إفراغ غزة من سكانها، باعتبار أن المقاومة الفلسطينية أصبحت عائقاً أمام هذا الممر وأهم المتطلبات الأمنية لتنفيذ هذا الطريق، فالممر يسير في مسار ضيق بين الضفة وقطاع غزة على بعد 25 كم، إضافة الى حقول الغاز (مارين1، ومارين2، وأور) التي تقع في المياه الإقليمية الفلسطينية باحتياطي يتجاوز 1.5 تريليون قدم مكعب وهذا ما أفقد الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا صوابها، لأنه أكبر ضربة للمشروع الذي يخطط له على مدى قرن من الزمن.
أزاحت الولايات المتحدة الأمريكية القناع عن سياستها المنحازة لإسرائيل، سواء بالدعم العسكري واللوجستي غير المتناهي، وتصويتها في مجلس الأمن وفي الجمعية العمومية وفي بياناتها وإعلامها، فالخطر يداهم الكل وبوابته غزة، وسقوط غزة هو مقدّمة لما هو أسوأ، ستكشف عنه الأيام والسنوات القادمة، ولكن ما نعلمه أن إسرائيل والمنطقة كلها بعد عملية طوفان الأقصى لن تكون كما قبلها، فالمعركة معركة وجود: الوجود الفلسطيني، وزعزعة الوجود الإسرائيلي، وربما يكون ولادة شرق أوسط جديد برؤية فلسطينية بحتة وعالم جديد أكثر عدالة.