الحداثة العربية بين التطور والابتذال

تهامة الدعبل:

عاش عالمنا العربي حالة ركود وسكون منذ زمن طويل، ويمكن القول إنه ما يزال يعيش هذا الركود حتى اليوم، في حين أن المجتمعات الأخرى تعيش تطوراً سريعاً بات من الصعب علينا مجاراته. وفي الفترة الأخيرة انقسم المجتمع إلى فئتين، فئة تمرّدت على ما هو موروث وعلى التقاليد السابقة كلها وابتعدت عن الدين نحو الإلحاد أو اللادينية، وأخرى تمسّكت بالتقاليد والدين أكثر، حتى إنها تكاد تقترب من التصوف في بعض الأحيان، وهذا انقسام طبيعي تعيشه معظم المجتمعات الفقيرة والتي تعيش حالات نزاع أو حروباً داخلية. لكنَّ السؤال الجدير هنا، إلى أي حدٍّ يمكننا القول إنَّ ما نعيشه اليوم هو حداثةً حقيقية؟ وهل سيقودنا إلى التطور حقاً ويُمكِّننا من مجاراة المجتمعات المتقدمة؟

بداية لا بدَّ من توضيح مفهوم الحداثة، والحداثة في جذرها اللغوي (حدث) تدلُّ على الحركة والتجديد، وحدوث الشيء وقوعه، أما الحداثة الفكرية فهي أسلوب فكري يسعى إلى التجديد والتغيير ويعتمد احترام الآخرين وآراءهم.

الناظر في هذين التعريفين سيظن أن ما نعيشه اليوم هو حداثة، إلاَّ أنه – للأسف – لا يشبه الحداثة بشيء، فالحداثة لا تعني الابتذال والزخرفة السطحية والابتعاد عن القيم، وهذا مفهوم خاطئ رفضه النقاد العرب، كما أن للحداثة خصوصيتها التي تستقيها من بيئتها ومجتمعها، فهي تختلف من بلد إلى آخر، واجترار ما لدى الآخر سواءً أكان حديثاً أم قديماً لا يمكن عدُّه حداثة، بل هو كما وصفه يحيى حقي: (طبع القرود)، وقد قال في هذا: (أرذل أنماط المثقفين هو المُبتلى بعقلية القطيع وطبع القرود، يثرثر لسانه بمعلومات استقاها عن الكتب لا من الحياة، تفاخراً لا فهماً وإحساساً). لذا، لا بدَّ لنا نحن العرب من التنبّه إلى احترام خصوصية مجتمعاتنا خلال رحلتنا نحو التطور حتى لا نكون آلة تعيد ما قاله الآخرون. إن الوصول إلى مجتمع متقدم ومتطور يحتاج إلى وعي مجتمعي يعتمد الحوار ويحترم الآخر مهما كان مختلفاً عنه، إذ لا يقوم مجتمع مثقف ومتطور على التعصب والكراهية.

ومن الأمور المهمة أيضاً أن الحداثة لا يمكن لها أن تبدأ من الصفر، والناظر في الحداثة الغربية يرى أنها لا تنفصل عن جسور وجذور الماضي، بل هي امتداد لها وترميم لما فيها من ثغرات، بمعنى أنه إذا أردنا الوصول إلى حداثة عربية حقيقية يُستفاد من ثمارها لا يمكن أن يتحقق لنا هذا إلاَّ من خلال الوقوف على محاولات السابقين، مثل محاولة محمد علي باشا والنهضة العربية التي قادها مجموعة من النقاد والمفكرين، للاستفادة ممّا وصلوا إليه وتلافي الثغرات لديهم، مع الانتباه إلى عدم الإغراق في الوقوف على أمجاد الماضي ونسيان الحاضر، ودراسة واقعنا الحالي لتحديد نقاط الضعف التي يجب علينا العمل على تحسينها أو تلافيها.

نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى مجتمع يقوم على المحبة والسلام كما كانت رسالة السيد المسيح عليه السلام، مجتمع يقوده شبابٌ واعٍ ومسؤول يحترم ذاته والآخر لنستطيع الوصول إلى المستقبل المشرق الذي نحلم به، ولا ننسى أنَّه إذا أردنا تجديد مجتمعنا لا بدَّ أن نبدأ بتجديد أنفسنا، قال تعالى: (لا يُغيّر الله ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم).

العدد 1107 - 22/5/2024