صمت من يعرف

أحمد ديركي:

كلما تعمقنا قليلاً في علم ما، والمقصود هنا بالعلم هو المعرفة، تعلّمنا، بمعنى عرفنا مدى قلة معرفتنا، بمعنى علمنا، عن هذا الأمر الذي تعمقنا فيه قليلاً. أكيد هناك فارق ما بين العلم والمعرفة، ولكننا نستخدمها هنا بمعنى واحد للتبسيط لا أكثر.

نتيجة تعمّقنا القليل في علم ما ومعرفتنا أننا لا نعرف إلا القليل مما نعرف يزداد مستوى الصمت، يقل الكلام، ويرتفع مستوى البحث عن المزيد من التعمق. والصمت هنا لا يعني فقط عدم الكلام، بل يتضمن حسن الإصغاء الذي به قد نرفع من مستويات معرفتنا، وفي الوقت عينه تتكثف عملية القراءة، وهي أيضاً عملية صامتة، وتقلّ ثرثراتنا الكتابية، والتي هي أيضاً صمت.

لكن هناك عملية معاكسه لهذا الأمر، ومن البديهي أن الشيء يُعرَف من نقيضه، فيدخل صراع الأضداد ويتولد من هذا الصراع شيء جديد، يحمل نقيضه في ذاته أيضاً.

العملية المعاكسة هي أنه كلما قلّت معرفتنا، أيْ علمنا بشيء، قلّت مستويات صمتنا، بكل تشكلاته! فترتفع مستويات المعرفة السطحية التي لا تمت إلى المعرفة بشيء، وترتفع معها مستويات النقاشات الثرثرية التي لا تصل إلى حلول جذرية لقضية ما.

حالياً هناك ملايين من وسائل تحصيل المعرفة السطحية، منها على سبيل المثال مجردة جملة مكتوبة على أي وسيلة تواصل اجتماعي، أو حتى شبه جملة وتنسب إلى هذا العالم أو ذاك، او حتى تكون في معظم الأحيان مجهولة النسب، أو مشوهة. فما الذي يحدث؟

أقرأ هذه الجملة سواء كانت مجهولة النسب، والطامة الكبرى إن كانت معلومة النسب، أو معلومة النسب ولا أعلم أنها مشوهة، لأن قارئها ليس بحاجة إلى أكثر من هذه الجملة أو شبه الجملة كي يفتح نقاشاً ثرثرياً حولها قد يدوم لساعات. والمقصود بالنقاش هنا هو عكس معنى صمت من يعرف!

فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك جملة تقول (الله لا يلعب النرد). يا للهول! إنها جملة جميلة قالها ألبرت أينشتاين. فيأخذها المتدين، ويناقش لساعات حولها، كما يأخذها غير المتدين ويناقش لساعات حولها، من دون ذكر مصدرها أو الظروف التي قيلت فيها.

فهذا المتدين يحاول استخدامها لإثبات غيبياته، وذاك غير المتدين يأخذها لإثبات لا غيبياته، والتي هي بجوهرها غيبيات مثل غيبيات المتدين!

وما أكثر العبارات الطنانة مثلها، تُكتب وتؤخذ من دون أي معرفة حولها. كان المثال من عالم العلوم، فيا هول الأمثلة المتعلقة بالأمور الدينية، أو الأمور السياسية أو حتى أمور التحليل النفسي.

فنحن جميعاً نتوهم أننا محللون نفسانيون من جملة واحدة كتبت على أحد وسائل التواصل الاجتماعي! أو حتى لمجرد معرفتنا اسم أحد مشاهير علماء النفس! وما أكثر شهرة سيغموند فرويد! فماذا نعرف عنه؟ نعرف أقل من القليل! وماذا نعرف عمّن عارضه، من أمثال كارل غوستاف يونغ؟ لا نعرف شيئاً!

وفي عالم السياسة، بكونه أكثر وسعاً وقمعاً نعرف عنه كما نعرف عن يونغ! وجميعنا يناقش ويحلل في عالم السياسة! وما أكثر العبارات الطنانة في هذا العالم السياسي، وويل لمن لا يردد هذه العبارات ما دامت تخدم مصالح السلطة السياسية!

ومن أمثلة عالم السياسة وعباراته الطنانة ما يسمع ويكتب ويقال، ويعطل عم الأذن وحاسة السمع، عبارة (ملف). (ملف الاقتصاد)، (ملف الأمن)، (ملف إعادة الإعمار)… وألف ملف وملف. ومن المتعارف عليه عند قول ملف، فهذا يعني أن هناك قضية ما تدرس من كل جوانبها. وتصبح هذه القضية أكثر تعقيداً عندما تتداخل مع (ملف) آخر. ولكن لحسن حظنا لا نعرف شيئاً عن أي ملف يناقش، ونناقش فيه ونختلف حوله!

فلنذهب إلى معرفة القليل قبل البدء بالنقاش، ولنحاول أن نسلك سلوك الصامت العارف ونصغي إليه عندما يخرج عن صمته، كي نكمل ما بدأ.

العدد 1104 - 24/4/2024