القمح السوري.. عمود الحياة الاقتصادية

فادي الياس نصار:

منذ أن هجَّنَ الفلاح السوري وزرع نوعاً من القمح البري وحيد الحبة، في سهول الجزيرة السورية ووديانها، منذ عشرة آلافٍ وخمسمئةِ سنةٍ، حتى يومنا هذا لاتزال المنطقة الشرقية من البلاد (مساحتها 41.8 % من مساحة سورية وتضم محافظات دير الزور، الحسكة، الرقة)، تحتل المرتبة الأولى من حيث الإنتاج، فهي تعطي 64 في المئة من إنتاج البلاد من القمح المروي، و38 في المئة من القمح البعلي.

وكانت منظمة الــ(فاو) تعتبر سورية (مخزن القمح في الشرق الأوسط). وقد احتلت سورية المركز الثالث عالمياً بتصدير القمح القاسي بعد كندا والولايات المتحدة، (يمتاز هذا النوع من القمح بكبر حجم الحبوب والبلورية واللون العنبري الأصفر)!

قبل نشوب الحرب كان العلماء يُخزنون في بنك المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)، الواقع في ريف محافظة حلب، أكبر مجموعة عالمية من بذورِ الشعير والفول والعدس، إضافة إلى أنواع أصلية من بذور القمح القاسي والقمح الطري. من تلك التي اكتسبت منذ آلاف السنين مورثات تأقلمت طبيعياً مع الإجهادات البيئية، تم جمعها من مناطق عرفت أقدم ممارسات تدجين المحاصيل في الحضارات البشرية.

علم الباحثون في جامعة ولاية كنساس، الذين كانوا يبحثون عن نوع مقاوم لهجمات ذبابة (هِس) المُدمرة، والتي أدت إلى خسائر في غلة القمح الأمريكي السنوية تجاوزت حدود الــ 10 في المئة، بموضوع المخزن، فتوجهوا إلى الحكومة الأمريكية، التي وجهت أحد قادة المجموعات الإرهابية في المنطقة، من الذين كانوا يعملون قبل الحرب، في مخازن (إيكاردا)، كي يحمي البذور من القذائف والصواريخ، ثم سرقتها وتهريبها عبر الحدود اللبنانية، لتصل الى حقلٍ مغطى في ولاية (كنساس) الأمريكية، حيث أجريت التجارب عليها، وكانت النتيجة، أنَّ نوعاً من بذور القمح السوري، تدعى  (Aegilops tauschii أو (الدوسر)، هو الوحيد (من بين 20 ألف نوع آخر من النباتات، تم تدميرها بسبب تلك الآفة)  الذي لم تقترب منه الذبابة، وهكذا أنقذ الإرهابيون بواسطة القمح السوري، محصول القمح الأمريكي من تهديدات آثار التغيّر المناخي.

صحيح أن مفهوم العمال في نداء (كارل ماركس) الشهير (يا عمال العالم اتحدوا) قد تغير اليوم، فعمال القرن التاسع عشر كانوا يعتمدون المنجل والمطرقة وسائل إنتاج، بينما يعتمد عمال اليوم على الحاسوب والحصادة، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تنقل لهم آخر التطورات في عالم الزراعة.

غير أنَّ هذا الكلام الفلسفي لا ينفي عن الفلاح السوري، صفة الإنسان المكافح (التعيّب) الذي يعمل اليوم تحت نير المجموعات الإرهابية، التغيير المناخي، والفساد والروتين الحكومي، معتمداً طوال السنة على موسم القمح، كي يتقدم وأسرته خطوة الى الأمام، فيقع يوم الحصاد بين مطرقة الإرهاب وسندان السماسرة والتجار.

تحية للفلاح السوري، أول زَارِع ومُهجِّن للقمح في التاريخ، العاشق الوفي لأمه الأرض، فهو منذ بدء الخليقة يولد من التراب، ويعيش معمداً برائحة التراب، وعندما يموت يعيدونه الى التراب، فيوصيهم أن يكتبوا على قبره:

إنّا نُحبّ الورد.. لكنّا نحبّ القمح أكثر

ونُحب عطرَ الوردِ.. لكن السنابلَ منهُ أطهر!

العدد 1107 - 22/5/2024