إشارات

د. ناديا خوست:

يبدو أن إحراق الجزء الشرقي من سوق ساروجا، إشارة. لأنه حدث في سياق استضافة يوسف زيدان في الإخبارية السورية، وتصريح وزير التربية عن مهمته (تلبية السوق)، وقفز الدولار، ومشروع التنازل عن شركة الطيران العربية السورية.

من يقرأ وجع المواطنين يخمّن أنهم يتوجّسون من نقلهم من زمن الثوابت الوطنية، والقطاع العام، والأمن الغذائي، ومهابة الدولة، إلى زمن لا علاقة له بصمودهم وأساطير جيشهم. وكأنهم يعانون من التناقض بين جانبين:

1 – نهج السياسة السورية الوطنية واختيارها الأحلاف الصحيحة، وجريانها إلى عصر جديد بعيد عن الهيمنة الغربية، الذي تعبّر عنه الرئاسة السورية والجيش السوري، ويستند إلى الوجدان السوري.

2 – سلطة مجموعة تدير الحياة الاقتصادية والتربوية تعبّر عنها الحكومة. قد تكون تجسيد قيادة حزب أو فئة منه، ذات (إيديولوجية) أقرب إلى البنك الدولي والليبيرالية الجديدة، لا علاقة لها بشعارات الأحزاب القديمة، والخبرة السورية في الاقتصاد. فهذه الخبرة ثبّتت أن القطاع العام يقوّي الدولة وينشر سلطتها الحامية على المنتجين، ويسند القطاع الخاص الصناعي. تؤكد تلك الخبرة أن الاقتصاد يشيّد على مؤسسات الإنتاج، ومشاريع التنمية، لا على الاستيراد والسمسرة والسياحة والخدمات الفندقية وبيع الممتلكات العامة.

عاشت سورية سنوات ذهبية خلال سلطة الدولة الحامية. شيّدت المؤسسات الثقافية، كنزت اللوحات الفنية، أسست المكتبة الوطنية، ونشرت الكتب بأثمان رمزية. تميّز ذلك الزمن بكرامة المنتجين، والاعتزاز بالليرة السورية، واحتقار الرشوة، وإدانة الفساد. فلماذا انقلبت تلك الصفحة الذهبية؟

يوم أُلغي الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي فُرض نهج اقتصاد السوق على العالم. وفي سنة 2005 اعتمده حزب البعث كحزب حاكم. وقد فصّلت دراسة الباحثة الكندية نعومي كلاين في كتابها القيّم (عقيدة الصدمة)، في الخسائر التي عانت منها الشعوب التي دمر الغرب اقتصادها الوطني، ثم فرضت فيها الليبرالية الجديدة انحطاطها وفسادها. ربما كانت من الخسائر يومذاك مؤسسة التربية والتعليم التي تسرّب إليها الإخوان مع تسربهم إلى الأحزاب الفاعلة. أضعفت الكتب المدرسية، وألغي الشعر العربي الكبير، واستبعد المعري، وحذفت قواعد اللغة العربية. ويجري الآن مثل ذلك في المدارس الغربية حيث قصف قطاع التعليم واستُبعد كبار الشعراء والمفكرين.

لكننا الآن وسط أسئلة كبرى:

1 – أصبحت الفئة التي تستضيء بالبنك الدولي من الجانب الذي يطويه الزمن العالمي الجديد. فقد الدردري بريقه، مع أنه كوفئ على تخريب الاقتصاد السوري بمنصب جديد في الأمم المتحدة، وصُقل كي يَستكمل التخريب باسم المنظمة الدولية.

2 – يفترض النهج السياسي السوري عودة سلطة الدولة الحامية، التي تحضن الاقتصاد والثقافة والضمان الصحي والاجتماعي، لتستقوي بالمنتجين والطبقة الوسطى.

3 – وهذا يناقض أداء الحكومة التي تدمّر الطبقة الوسطى وتنكّل بالمنتجين، وتنشر فوضى الأسعار، وتخترق الخطوط السياسية الحمراء في المؤسسة الإعلامية الرسمية.

4 – يناقض أداء الحكومة نهج المحور الذي تلتزم به سورية، ويندفع في اتجاه الجانب الذي يطوى من التاريخ الإنساني.

5 – ومع ذلك يحقق وقائع قاسية على المواطنين، ويجعل الغذاء مشكلة يومية، ويحرم الشباب من الحلم بأسرة وعمل، ويشجع الحلم بالهجرة، ويتغافل عن الفساد والرشوة ونهب المال العام.

يبدو أن الصراع الآن على سلطة الدولة الحامية. فمشروع سلب شركة الطيران السورية من القطاع العام يشبه الحريق الذي التهم الجزء الشرقي من حي سوق ساروجا. لذلك تذكرتُ الاقتصادي السوري الكبير خالد العظم، ابن حي سوق ساروجا. كان في التصنيف من البورجوازية الوطنية. أسس معمل الإسمنت ومعمل الزجاج، وصوتت له في الانتخابات الطبقة التجارية والاقتصادية الشامية. لكنه كاقتصادي وطني فهم ضرورة القطاع العام. فوقّع في الاتحاد السوفييتي اتفاقية تتضمن أربعين مشروعاً تقريباً، لبناء مرفأ اللاذقية ومد سكك القطار إلخ. وهو صاحب قانون العمل ثماني ساعات، والضمان الاجتماعي، ومنع عمل الأحداث. فكم نتمنى أن يتعلم منه الاقتصاديون الجدد، ويقرؤوا بانتباه مذكراته الثمينة!

بعد اثنتي عشرة سنة من الحرب، نحتاج إلى تثبيت سلطة الدولة حامية التعليم والاقتصاد الوطني والصحة والثقافة والإعلام. وحل مشكلة التناقض بين النهج السياسي الوطني الذي تحمله مؤسسة الرئاسة السورية في اتجاه روح العصر، ونهج الحكومة والفئات الحزبية التي تجسد الجانب الذي يطوى من التاريخ الإنساني.

 

(نقلاً عن الصفحة الشخصية على الفيسبوك)

العدد 1105 - 01/5/2024