أبطالنا المخذولون المنسيون

بولس سركو  :

كثيراً ما نتباهى بأننا أبناء حضارة عمرها سبعة آلاف عام، وهو في الواقع عزاء وهمي لأنفسنا نعوض به فقرنا الحقيقي للحضارة في زمننا، فقد انتقلت البشرية من الوحشية إلى البربرية إلى الحضارة وفقاً للتقدم في إنتاج وسائل العيش. ومورغان (الباحث في علم الإنسان الذي اعتمد أبحاثه فريدريك أنجلس، يبرر ذلك بأن للمهارة في الإنتاج الأهمية الفاصلة بالنسبة لدرجة تفوق البشر وسيطرتهم على الطبيعة.

اختراع القوس والسهم ثم تشييد القرى والمدن وما تطلبته من آنية وسلال ولوازم منزلية وأدوات حجرية وخشبية وحياكة يدوية ثم تدجين الحيوانات، ثم صهر فلز الحديد الذي انتقلت معه البشرية إلى الحضارة نتيجة اختراع الكتابة الحرفية واستعمالها في تسجيل الإبداع الكلامي، ومع كل خطوة في ذلك المسار الطويل كان الناس يتجاوزون أكثر فأكثر حالة الفوضى ويطورون أسساً لتنظيم حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وتتوسع لديهم مجالات التعليم والتفكير والفنون، حتى أصبحت هذه المجالات أهم الخصائص المميزة الجوهرية للحضارة المعاصرة، إذ لا نستطيع اليوم اعتبار مجتمع ما مجتمعاً حضارياً لمجرد انتقاله من البداوة إلى إشادة المدن العصرية ما لم يترافق ذلك بالإنتاج الفكري والعلوم والفنون ومجموعة من المقومات الثقافية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية.

نختصر كل ما سبق بأن الحضارة تعني اليوم النتاج الفكري الثقافي والمادي المتراكم لأمة من الأمم يمنحها خاصية مميزة عن الأمم الأخرى. ولكل إنتاج مادي أو فكري أو فني أبطاله الذين يرفعون من قيمة الأمة ومكانتها في المجتمع الإنساني الواسع، وإن كانت إبداعات هؤلاء الأبطال عموماً مرهونة بتوفر الشروط الملائمة، إذ كما يقال تبدأ عوامل الإبداع حيث ينتهي الاضطراب والقلق، فإن ما يكسب أبطالنا صفات أشبه بالخارقة هو القدرة على الإبداع بإمكانيات متواضعة وجهود فردية وسط محيط من الاضطراب والقلق، ووصولهم بهذه الظروف إلى العالمية في الفن التشكيلي، المسرح، الدراما، الموسيقا، الشعر، الرواية، التعليم، النشاط الرياضي، الترجمة. لكننا لم نرتقِ لا أفراداً ولا مؤسسات إلى مستوى احترام مجهودهم وإنتاجهم ولا حياتهم ومعاناتهم، فأين نحن من الحضارة؟!

أين السبعة آلاف عام!؟ يسأل كل من يشاهد الفيديو المبكي للاعب منتخبنا الوطني جوزيف شهرستان المشرد في شوارع دمشق، والذي استحضر شريطاً من الذكريات المؤلمة عن مصائر أبطال آخرين، هل تذكر أحدنا الفنان التشكيلي الراحل لؤي كيالي أحد كبار رواد الحداثة في التشكيل السوري؟؟ وكيف أدت ضغينة وكيدية زملائه الذين كانوا يصفونه بالمجنون إلى موته مقهوراً ومحروقاً، وبالمناسبة لم يزُره في المشفى قبل رحيله 1978 سوى الفنانة الرائدة ليلى نصير التي تمتد سيرتها لأكثر من نصف قرن من العطاء، وهي الأخرى الآن ممدّدة على سريرها وحيدة في غرفة مغلقة في دار الراحة للمسنين في اللاذقية منذ سنوات، ولا أحد يعرف عن مصير إنتاجها.

هل تذكّر أحدنا الشاعر المبدع محمد سيده الذي مات في سوق الجمعة في اللاذقية، وبقيت جثته في المشفى أياماً قبل أن يتعرف عليه أقرباؤه؟

هل تذكّر أحدنا حوت السباحة السورية البطل العالمي جلال زيدان، أول من مثّل وطننا في السباحة العالمية ورفع العلم السوري 30 مرة في البطولات الخارجية، وحاز على بطولة العالم في نابولي 1969؟؟ بإمكانكم أن تجدوه اليوم على شاطئ البحر يدرب بعض الفتية على السباحة ليؤمن معيشته وقد تجاوز السبعين من عمره، على بعد بضعة كيلو مترات فقط من مدينة أوغاريت (مهد الحضارة) التي ألف الفرنسيون موسوعة عنها من خمسة عشر كتاباً ضخماً، بينما لا تحتوي كل المكتبة العربية سوى كتيب صغير، فهي مثل أبطالنا مدينة مخذولة ومنسية منذ سبعة آلاف عام.

العدد 1104 - 24/4/2024