الذكاء الاصطناعي يفكّر..  والبشر يموتون

د. نهلة الخطيب:

تصنّف مصادر الخطر على الأمن الدولي إلى مصادر تقليدية تتضمن الحروب، بنية النظام الدولي، الإرهاب، انتشار أسلحة الدمار الشامل، إضافة إلى مصادر غير تقليدية كالفقر والمجاعات، الجهل والأمية، الأمراض السارية، الاحتباس الحراري، غسيل الأموال، الاتجار بالأشخاص، وتختلف الآراء حول الأكثر والأشد خطراً. ولكن مؤخراً يجري تداول مصدر خطر آخر على الأمن الدولي يراه البعض الأشد تهديداً، إذ نعيش حقبة جديدة من التغيرات والتحولات الهائلة الناشئة عن ثورة تكنولوجية غيّرت حياتنا بشكل كبير وخاصة التطورات بالذكاء الاصطناعي، فقد تحول مجتمعنا فيه من مجتمع يعتمد على الآلات إلى مجتمع يعتمد على المعلومات، بعد أن وصل عالم المعلومات إلى مرحلة عالية من النضوج تمكنها من أن تصبح جزءاً هاماً في عمليات صنع القرار، فأصبح الذكاء الاصطناعي أبعد من مجرد رأي أو نقاش بل أصبح الشغل الشاغل بين الخبراء والعلماء، ومن المتوقع أن يصبح في القرن 21 إحدى التقنيات الرئيسية التي تدار بها العلاقات الدولية، فما المقصود بالذكاء الاصطناعي، وما أهميته، وكيف يكون مصدر خطر على الأمن الدولي والإنساني؟

الذكاء الاصطناعي هو قدرة عامة على استخدام معطيات الوقت الفعلي لاتخاذ القرار، إذ يتلقى الجهاز أو البرنامج تلك المعطيات من خلال أجهزة الاستشعار أو الإدخال عن بعد أو رقمياً ثم يقوم بتحليلها قبل اتخاذ القرار، وهي السمة التي تميزها عن آلة مبرمجة مسبقاً.

إذاً، الذكاء الاصطناعي هو الذكاء الذي تبديه الآلات والبرامج بما يحاكي القدرات الذهنية البشرية، التأمل وإصدار الأحكام وتكوين الرأي، وأنماط عملها وقدرة الآلة على تعلم كيفية إكمال المهام دون تعليمات بشرية صريحة. ويعود الفضل في تطوير فكرة الذكاء الاصطناعي إلى عالم الرياضيات البريطاني ألان توينج الذي كان يؤمن بأهمية وجود الآلات للتفكير لحل المشاكل بشكل مستقل، وجون مكارثي الذي وضع هذا المصطلح سنة 1955، وعرفه بأنه علم وهندسة صنع آلات ذكية.

شهدت تقنية الذكاء الاصطناعي تطورات وقفزات كبيرة، وتعد تقنية (التعلّم العميق) أبرز مظاهره، وتعتمد على تطوير شبكات عصبية صناعية تحاكي في طريقة عملها أسلوب الدماغ البشري، أي إنها قادرة على التجريب والتعلم والتطوير الذاتي. وقادرة على فهم الكلام والترجمة من لغة إلى أخرى، ويعد جيفري هينتون عراب الذكاء الاصطناعي وعرّاب التعليم العميق، فقد أحدث عمله على تطوير الشبكات العصبية الاصطناعية ثورة في عالم التكنولوجيا الحديثة، وتعتبر أعماله حجراً أساساً لتطوير آلات شبيهة بالدماغ البشري وتتميز باستقلالية عن مبرمجيها في المستقبل، وللذكاء الاصطناعي أربعة أنواع كل نوع يعتمد على مدى تطور النوع الذي سبقه:

– الآلات التفاعلية يعمل على بناء تقييم الوضع الحالي ولا يملك مستودعاً للذاكرة للاستفادة منها في المستقبل.

– الذاكرة المحدودة يعمل على تذكر التجارب السابقة على أنها تمثيلات مبرمجة مسبقاً لبيئتها ويقوم على دمج هذه الذكريات في القرارات المستقبلية.

– نظرية العقل وهو الأكثر تقدماً، ويتعامل مع المعتقدات والنوايا والرغبة والعواطف والمعرفة للآخرين.

– وأخيراً الوعي الذاتي، لديه القدرة على تكوين تمثيلات عن نفسه وبالتالي امتلاك الوعي.

والنوعان الثالث والرابع يوجدان كنظرية فقط وسيمثلان المرحلة المقبلة من تطور الذكاء الاصطناعي نحو الاستغناء عن البشر في كثير من المهام الصعبة.

وحول أهمية الذكاء الاصطناعي قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2017: (إن الذكاء الاصطناعي يشكّل لا مستقبل روسيا فحسب، بل مستقبل البشرية جمعاء، يحتوي على فرص عظيمة وكذلك تهديدات يصعب توقعها، الطرف الذي سوف يصبح الرائد في هذا المجال سيحكم العالم).

ولا شك في قدرة الذكاء الاصطناعي على خدمة البشرية، والعمل لساعات دون تعب وأداء مهام خطيرة في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والأمنية، وهذا ما ينتج عنه مخاطر وتهديدات خطيرة تتجلى في مجمل الوظائف والمهن التي يهدد الذكاء الاصطناعي بانتهائها وتحل محلها وظائف ذات صلة بالبرمجة وتحليل المعلومات، وتحل الآلة محل الانسان مما يؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة وتأثيره على سوق العمل.

من جهة أخرى الذكاء الاصطناعي يعتمد على بيانات تقدم له من أشخاص لهم معتقدات وأفكار خاصة، قد تكون موجّهة ومتحيزة، نلمس هذا التحيز في الفرضيات والنتائج وبالتالي تفقد الحيادية.

إضافة إلى تراجع الضوابط الأخلاقية، وانتهاك حقوق الإنسان في استخدام أسلحة ذاتية التشغيل على نطاق دولي واسع، كاستعمال الطائرات دون طيار (الدرونز) وغيرها من الأسلحة ذاتية التشغيل التي أدت إلى تزايد الخسائر البشرية بين المدنيين الذين يكفل لهم القانون الدولي الانساني الحق في الحماية في حالات الصراعات المسلحة.

هذا ما شهدناه في الحرب الروسية الأوكرانية التي تصنف كحرب تقليدية استخدمت فيها أسلحة تقليدية دبابات طائرات وسفن حربية، ومن جهة أخرى تزايد استخدام أسلحة الذكاء الاصطناعي، وتحولت جبهات المعارك إلى ميادين لاختبار التكنولوجيا والتحكم عن بعد ما يعرف بـ(تسلح التكنولوجيا)، وباتت تمتلك قدرات عالية على تغيير مسار التطورات الميدانية في مناطق الصراع الساخنة، فشهدنا طائرات دون طيار والروبوتات القاتلة تلعب دوراً في مهام المراقبة والاستطلاع والقتال أثبتت قدرتها على اختيار الهدف وقتل الأشخاص دون مراقبة بشرية، بالإضافة إلى نشر معلومات مضللة لخلق تزييف للحقائق بنشر فيديوهات تستخدم فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

ويكمن الخطر في النوع الرابع من أنواع الذكاء الاصطناعي وهو امتلاك درجة من الوعي الذاتي بمعنى مستقلة عن إشراف البشر، وخاصة على الصعيد المدني أو العسكري مما يؤدي إلى عدم استقرار استراتيجي بفعل احتمالات تخريب البيانات وفقدان السيطرة على أنظمة تسلحها في المعارك قد تؤدي إلى إشعال نيران صديقة أو إشعال فتيل الأعمال العدائية، وفي ظل انعدام قدرة الذكاء الاصطناعي على مراعاة الأعراف والمواثيق الدولية التي تفرض التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية تفشل الروبوتات المقاتلة والأسلحة الذاتية التشغيل في استشعار الفرق بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية التي يجب عدم المساس بها.

وأخيراً من أكبر مخاطر الذكاء الاصطناعي هو استخدامه في إنتاج وتطوير أسلحة بيولوجية، إذ أثبت مقدرته على تحديد أشكال جديدة من المضادات الحيوية والأدوية لمكافحة العدوى، ويمكن التلاعب بها للبحث عن أدوية سامة وخطيرة تستخدم لأهداف عدوانية.

ونقلاً عن صحيفة (واشنطن بوست) أن هنري كسينجر أحد أبزر رجالات الدولة والاستراتيجيين في العالم، والذي قضى معظم حياته المهنية يفكر في مخاطر الأسلحة النووية، أصبح في سن 99 مهووساً بمخاطر حديثة للغاية وهي مخاطر الذكاء الاصطناعي على البشر، وأن القوة التدميرية له يمكن أن تكون أقوى من أكبر قنبلة نووية وهو الحدود الجديدة للحد من التسلح، وإذا لم يتحقق إيجاد طرق للحد من انتشاره فإنه سيتحول إلى سباق مجنون يتسبب في كوارث كبيرة للبشر، وقد حذر كسينجر أن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تحول الحرب إلى لعبة شطرنج أو غيرها من الألعاب الاستراتيجية التي لها عواقب خطيرة على العالم.

قد يكون الذكاء الاصطناعي هو مستقبل البشرية، لكنه مستقبل أكثر سواداً وظلمة من الحاضر الذي نحن فيه، وحسب الفيزيائي ستيفن هوكينغ أن الذكاء الاصطناعي سيكون التطور الأخير الذي تنتجه البشرية لأنه سينهيها، على الرغم من الفوائد الهائلة التي يقدمها. جيفري هينتون مؤسس الذكاء الاصطناعي ويسمى الأب الروحي له أبدى ندمه عما فعله وقال (ساهمت بتطوير تكنولوجيا أصبحت خطيرة على العالم).

كثير من الأدوار التي يقوم بها البشر سوف تلغى في المستقبل القريب، إلا أنه لن يلغى دور المرأة بالحمل والولادة! وأكثر ما أثار حفيظتي هي الأرحام الاصطناعية التي قدمها العلماء الصينيون في عام 2019، وجرى تخصيبها ببويضة قرد وصولاً إلى تكوين الأعضاء دون جسد حي، فهل يمكن ان نرى قريباً جنيناً بشرياً متكامل النمو يخرج إلى الحياة برعاية روبورت؟!

فتخيّل يا رعاك الله!

العدد 1107 - 22/5/2024