سليل الإقطاع الذي مات سعيداً

بولس سركو:

كنت منهمكاً بإنشاء عمل فني تزييني في مزرعة أحد الأثرياء، في الأيام الأخيرة قبيل انهيار الاتحاد السوفيتي، وكان يتملكني الغضب والتوتر والارتباك من تصور عالم بلا اشتراكية، وكانت عبارة ماركس (الاشتراكية أو البربرية) ترن كساعة المنبه في رأسي، وفوق ذلك كان هناك رجل مسن (سليل الإقطاع) يخرج كل بضع دقائق من غرفته مغموراً بالفرح والمذياع الصغير ملتصق بأذنه ليخبرني بأخر مستجدات أحداث آب المشؤومة في موسكو 1991 رغم عدم اكتراثي بمشاعره.

وحين استولت عصابة الخونة، جواسيس الغرب الرأسمالي، على الكرملين بالقوة والمكر وخداع الجماهير، جلسنا متقابلين نبكي، هو من نشوة النصر، وأنا من القهر واليأس والخوف من الثمن الذي ستدفعه البشرية في الغد القريب وقد أفلت الوحش الرأسمالي من أغلاله.

مضى على ذلك 32 عاماً هو عمر البربرية الجديدة التي عشناها ونعيشها بكل مرادفاتها (الهمجية، الوحشية البدائية، الظلم، الإرهاب، الاستغلال، الفقر، القتل والتدمير والنهب، النفاق والوقاحة والجهل وفقدان الأمل).

ثلاثة عقود من استدارة الزمن إلى الوراء، وانقلاب العالم رأساً على عقب، واختلال الموازين، وانتهاك المواثيق الدولية وانحطاط الثقافة والقيم الإنسانية والأخلاق واتساع وتعمق النزاعات بين الدول والقوميات والأعراق والأديان.

منذ اللحظة التي تربع فيها الليبراليون الجدد مرتزقة البيت الأبيض على إدارات الدول المستقلة ثم على مختلف إدارات دول العالم أفقدوا دولهم كل إمكانية للحفاظ على استقلالها وسيادتها،   وحوّلوها إلى دول تابعة باقتصادها ومواردها وقراراتها السياسية، ومن لم يركب قاطرة التبعية ويخدم مصالح القوة المهيمنة فالحرب والدمار والحصار والجوع بانتظاره.

عام 1992 افتتحت الولايات المتحدة الأمريكية سلسلة اعتداءاتها العسكرية على دول العالم بالهجوم الصاروخي على الصومال، ثم على يوغسلافيا عام 1999 وعلى أفغانستان 2001 وعلى العراق 2003 وعلى سورية 2018.

وحروب بالوكالة في ليبيا واليمن وسورية والسودان وأوكرانيا، وتحرشات أمنية وضغوط وعقوبات وبروباغندا مركزة ضد كوريا الشمالية والصين وروسيا وكوبا وفنزويلا والبرازيل والأكوادور وغيرها، ولا تتوفر في الحقيقة إحصائيات دقيقة لعدد ضحايا تلك البلطجة، ولكن بالتقدير يزيد العدد عن خمسين مليوناً بالحد الأدنى بين قتيل وجريح ومفقود ونازح.

أما جرائم البرابرة اللبراليين الجدد في الاقتصاد فليست أقل كارثية، لأن المجتمعات المدنية التي قاموا ببنائها هنا وهناك، أوصلت الفوارق الطبقية إلى مستويات لم تشهدها أشد الأزمنة رجعية، كونها بالأصل أنظمة نهب تتكون من أقليات تسرق شعوبها وأغلبيات مخدوعة، كانت ومازالت السبب في تدهور المستوى المعيشي للشعوب، حتى بلغت النسبة العالمية للفقر 47% مترافقة بانتشار اقتصادات الظل وشبكات المضاربة والجريمة المنظمة وأسواق الدعارة والإتجار بالبشر.

اليوم هناك 1.3 مليار من الجياع في العالم تدعي مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة أنهم (ذوو الحظ العاثر) وهم في الحقيقة ضحايا استبدال نظام العدالة الاجتماعية بنظام شريعة الغاب، بالأسواق الحرة، بالقوانين الجائرة التي تراعي فقط مصالح الأقلية من الأثرياء التي لا تزيد عن سبعة من أثرى أثرياء العالم أفقرهم مايكل بلومبرغ بثروة تقدر بــ94،5 مليار دولار، بينما لا تزيد موازنة دولة كسورية عن خمسة مليارات، وحتى أغنى دول الجنوب مثل قطر التي بلغت موازنتها 62،64 مليار دولار عام 2023 وهي لا تعادل سوى إيرادات بضعة أيام للملياردير الفرنسي برنار أرنو.

هذه الأرقام الصادمة، هذا التفاوت المريع ليس سوى الجزء الأبرز من بربرية عالم ما بعد الاشتراكية، فربما نحتاج آلاف الصفحات لتغطية كل التفاصيل والوقائع الخاصة بهذا العالم، قروض البنك الدولي، الشركات عابرة القارات، الدولار كأوراق بلا رصيد، ثقافة الحضيض الاستهلاكية، تغول اليمين والتيارات العرقية والإرهاب الديني الذي كان لبلدنا حصتها الكبرى منه، وكم تمنيت لو بقي سليل الأقطاع حياً ليرى بأم عينيه برابرة العصر ينامون بأجسام ملوثة بدم (الكفار) مع مجاهدات النكاح وسبايا الغزو على سريره.

العدد 1104 - 24/4/2024