قصة قصيرة | أفراح المهزومين

بشار حبّال:

كان يمكنني أن أدور على مؤخرتي برفّة عين كي يصبح وجهي ملاصقاً للجدار، ويداي خلف رأسي بحركة لاشعورية لدى أدنى حركة في الخارج، شأني في ذلك شأن جميع المعتقلين، هكذا بلحظة واحدة يسري الرعب مثل تيار كهربائي، فتتحرك جميع الأجساد نحو الجدار مرّة واحدة، معلنة الخضوع والقبول لممارسة التوحش على مخلوقات لا تملك من أمرها إلا الاستسلام للمجهول القادم من الخلف.

الغرفة التي حُشرنا فيها مثل خراف تعدّ وتحضر للذبح، ارتفاعها أقل من مترين، في وسطها انهدامٌ في الأرض جعل منها أرضاً مقعرة. في الليل تصبح قبراً معتماً لغياب أي بصيص من الضوء. وحده أنين المجهول يعلن عن وجود مخلوقات مازالت تتنفس.

باب حديد متآكل من الأسفل، جرى إصلاحه على عجل، ثلاث فتحات صغيرة جداً في أحد الجدران، الفتحة الأولى مغلقة بقطعة من الخشب من الخارج، الفتحة الثانية مخصصة لتفريغ بول المعتقلين بعبوة بلاستيكية تنتمي لعائلة (الكولا) بعد التبول في إحدى زوايا الغرفة وأمام الجميع، هذا الفعل الجريء في عاديته نهاراً يصبح كارثياً في الليل في نجاح المطابقة الكاملة بحاسة اللمس بين فتحة العبوة مع فتحة التبول، وهو ما يحدث بالصدفة. الفتحة الأخيرة متروكة_ كرَماً_ لقطيع البشر منعاً من الاختناق، وسيف مسلط على الرقاب بإغلاقها عند أي انزعاج للحارس من همس القطيع الذي يقطع عليه أحلامه في بعض الأحيان.

(الكلّ وجهه على الجدار يا كلاب، على الجدار يا عرصات!)

يهجم الصوت علينا صاعقاً مع حركة المزلاج للباب من الخارج، فيدب الرعب والحركة بجميع الساهين والنائمين والمشغولين بالثرثرة عن أيام الحرية التي ولت دون رجعة، فتنغلق الأجساد سريعاً بمواجهة الجدار إلى داخل محاراتها بقلوب واجفة تنتظر وجع الآتي.

الوحش لا يحب أن يرى عيوناً تنظر إليه وهو يدخل، تسرق منه لحظة النصر وحرية الفعل واليقين الذي يمتلكه، تغضبه لغة العيون التي مازالت تملك بقايا من المقاومة والشجاعة لتنظر بعينيه، يزعجه فشله في تحطيم تلك البقايا، وهو يملك كل العنف العاري الذي يتنامى عندما يرى عيوناً مازالت تملك البريق، العين القادرة على التمعن تملك الفرصة والإمكانية للصمود والتحدي، معركة بين العيون المفتوحة والمغمضة يخوضها الوحش مع ضحيته، هذا السلاح السري التي تملكه الضحية ولا (تدركه) هو ما يخيف الوحش، هو قوتها وضعفها، نجاتها وهزيمتها.

الضحية لا تدرك أن التقوقع كجنين في بطن أمه يزيد من فرص نجاتها إلى حين، ودون أن يدري يزيد من غلّته بالأمل. ويمنح الوحش من الشعور بزهو الانتصار، ومتعة الإنجاز في إخضاع الإنسان وتحطيم كينونته، والفعل الآمن والواثق من ذاته في امتلاك الضحية والعبث بها كما يشاء. تغرقه النشوة للأجساد المنهارة في إعلانها المباشر والمكشوف عن الحب الخنوع بين الجلاد والضحية، هو حب سري تمنح فيه الضحية نفسها بشوق النجاة لساعة أخرى، أو يوم آخر، وربما (ويا للفرحة) للحياة من جديد.

وحدها العيون المصوبة تثير الشك والقلق في نفس الوحش وتحول إرهابه من فعل للعنف المجرد، وأحياناً للتسلية، إلى العنف اللئيم المشحون بالغضب، فيذهب بعيداً بتوحشه تحت إحساس الخوف المفاجئ من تلك العيون التي تنظر إليه مباشرة.

السرعة التي كنت أدور بها على مؤخرتي ليصبح وجهي ملاصقاً للجدار مع صوت المزلاج، تلك الحركة في الدوران مع رفع الأيدي أسفل الرأس وأعلى الرقبة من الخلف وإغماض العيون ثم الانحناء بين الساقين، كانت تمنحني شيئاً من الأمان وأحياناً الفرح أنني أصبحت خارج مخالب الوحش المباشرة، هناك ذبيحة غيري تتلكأ، أو ساهية تشغل وقت الوحش، ودائماً هناك من يجده الوحش بداية لنهش جسد ما.

ما زلت أملك بعض الوقت، وما زال بإمكاني الانتظار من جديد، كي أدور وأدور مكرراً دفاعاتي الغريزية في استنزاف الوقت وصبر الجسد.

لا تسأل الضحية نفسها لماذا يغمض عينيه في تلك المسافة مع الجدار والتي لا تتجاوز عقدة الإصبع؟ ولماذا يشد بأصابعه العشرة على أسفل رأسه وأعلى الرقبة، وكأنه يمسك جمجمته من أن تهرب من عموده الفقري، وماذا يريد أن يحمي بتلك الحركات الخرقاء التي يفعلها، وكامل جسده مشرع للتحطم والموت.

الغريزة لا تسأل، تدافع عن وجودها بطرائقها الخاصة وخارج المألوف والعقل، فيتسرب إلى الأجساد المفككة فرح الدفاع عن الذات، واحتمالات النجاة الخبيئة بالجسد، تبحث عن فرصتها بتلك الثواني التي تواجه الجدار كنداء أخير ووحيد.. السعادة هنا أن لا تسأل.

 

العدد 1105 - 01/5/2024