عن حسيب كيالي ونعيمة زعفران وكبّة بالصينية

عبد الرزاق دحنون:

كان ذلك في مثل هذه الأيام، ولكن قبل ثلاثين عاماً، في أوائل ربيع عام 1993، وكنتُ قد هاتفتُ أديبنا الكبير ابن مدينة إدلب حسيب كيالي، المُقيم في مدينة دبي، فقال لي: مليح أنك اتصلت بكّير، تعال وعجّل قبل أن أنشغل بقضية ما، أنا في انتظارك!

المسافة بين (أبو ظبي) التي أعمل فيها معلم بناء عام في شركة سيف بن درويش، وديرة دبي، حيث يسكن حسيب كيالي في بيت على حساب الإذاعة والتلفاز مُراقباً للنصوص والبرامج ومقدّماً لها، وهو الذي يحتاج إلى مُراقبة على حدّ تعبيره؛ كانت بين المدينتين في حدود مئة وثلاثين كيلومتراً، قطعتها الحافلة العامة في أقلّ من ساعتين، وبذلك وصلتُ في ضحوة النهار.

بعد أن رحّب بي وعاتبني لقلّة زياراتي، سألني ونحن ما نزال على عتبة باب البيت: هل تعرف نعيمة زعفران؟ قلتُ: ومن تكون نعيمة زعفران هذه حتى أعرفها، هل هي من بلدياتنا؟ قال: حزرت، هي من مدينتنا، ومن أحد أزقتها القديمة زقاق حسّان. قلت: هل تقصد حميدة نعنع الكاتبة العالمية التي تزوّجت فرنسياً، وتعيش في باريس من سنوات طوال؟ قال: هي. كان يُمازحها عبر الهاتف، فيقول لها: يا حميدة اتركي هذا الفرنساوي لا هو من ثوبنا ولا هو من ملّتنا، وتعالي إلى دُبيّ تزوّجي من ابن مدينتك وعيشي معه بثبات ونبات حتى يُخلّف (إن شاء الله) طرشاً من الصبيان والبنات. قلتُ: أطلقتَ عليها لقب نعيمة زعفران لابق عليها على كل حال، لابسها لبس. قال: تفضل، أهلاً وسهلاً برائحة الأهل.

رحبت بي أخت حسيب كيالي ترحيباً جميلاً وهي مقيمة معه وتكبره في العمر، وكانت تقرأ في كتاب فسألتها: ماذا تقرئين؟ قالت: هي مجموعة قصصية اسمها (نعيمة زعفران) صدرت حديثاً في سورية، وقد وصلتنا قبل أيام عدّة نسخ إلى البيت بالبريد. وها هي ذي.. قلّب صفحاتها ولكن لا تُخربطها حتى لا أعود للقراءة من أول صفحة!

 

قال حسيب كيالي موضّحاً: هي تُضيّع الصفحات التي وصلت إليها في القراءة دائماً؛ لذلك تضع علامة واضحة بين الصفحات، وإن ضاعت هذه العلامة، لا بد أن تبدأ في القراءة من أوّل صفحة في الكتاب. وهذه نسخة هدية لك خبّأتها حين هاتفتني. فتحتُ على صفحتها الأولى، فكانت خالية من الإهداء بخط حسيب كيالي. فقلتُ: أين الإهداء؟ فقال: وهل من الضروري ذلك، هات وأمرنا للّه! وكتب: الأخ العزيز عبد الرزاق دحنون.. مع محبتي وتقديري! يوم الجمعة 19 آذار (مارس) 1993.

في تلك الأيام كانت أخت حسيب كيالي في حيطان الثمانين، وما زالت تقرأ وتكتب وتطبخ أكلات لذيذة تعلّمتها في مدينة إدلب، وتعمل قهوة من أطيب ما يكون. وفي أول زيارة قمتُ بها لبيت حسيب كيالي في دبي يوم الجمعة 15 أيار (مايو) 1992، وكانت زيارة تعارف، ناديتها أثناء الحديث بلقب يا حجّي، على عادتنا في مدينة إدلب، فاستغربت الأمر واستهجنته، فقالت لي موبّخة ومُعنّفة: من أولها أهونها، لا تُناديني بهذا اللقب مرّة ثانية، لا أحبّه. وفعلاً غيّرت صيغة المنادى، ومن ثمّ تصادقنا، وصارت تحكي لي عن إدلب أيام زمان، وأنا أحكي لها عن حاضر إدلب وأهلها.

لفتت نظري طاولة حسيب كيالي المُرتّبة، حيث تجد عليها أوراقاً من مختلف الألوان ودفاتر مدرسية مخطوطة وأقلام رصاص مُهذّبة مبريّة برياً حسناً وقلم حبر شيفر ميديوم الذي يكتب بسلاسة، وكأنه ينضح من زبدة عرب. قلتُ: كأنك كنتُ تُجهّز نفسك للكتابة؟ قال: نعم، وقطعها هاتفك. ثمّ التفت إلى أخته، قائلاً: ماذا سنأكل في الغداء على شرف ضيفنا عبد الرزاق؟ قالت دون تردّد: كبّة بالصينية. وفعلاً كانت ألذّ كبّة بالصينية أكلتها في حياتي.

اسمحوا لي أن أقول بضع كلمات أخرى عن الأديب السوري حسيب كيالي_ رحمه الله، وأطرح هذا السؤال. أين تكمن قوة أدبه وكيف يأسر مريديه؟ من الصعب الجواب عن هذا السؤال على نحو مباشر، ولا أريد التعمق به كثيراً، لأنّ حقل أدبه واسع فسيح، وقد رأيتُ عنده أكثر من عشرة دفاتر مدرسية ما زالت مخطوطة فيها الشعر والقصة والمسرحية، وقد تصفّحت مجموعة قصصية فيها مئة قصة قصيرة مخطوطة ما تزال، وكان تلك الأيام يبحث عن دار نشر جسورة لنشر تلك القصص ولم يجد.

 

أقول بشيء من التبسيط: أدرك حسيب كيالي قيمة الكلمة المكتوبة فاستعملها برهافة مبضع جراح، ويبدو أن ذلك هو ما يحبّبه إلى مريديه ويجعله أثيراً لديهم. كان يتأمل من غير تعقيد، ويعبّر بالصورة الفنية المدهشة عن قيم أهله وبلده، محلّلاً أكثر قضايا الوجود البشري الخالدة، أي أنه تمكن من العثور على لبّ مادة الفن الحيّ: كيف يجب أن يكون الإنسان الحقيقيّ، وما هي رسالته السامية، وما هو مغزى حياته؟ تلك هي القضايا البسيطة والخالدة التي شغلت بال حسيب كيالي، ولا تزال تشغل بال الأجيال في مختلف العصور. ولكي يردّ على هذه الأسئلة تعيّن عليه أن يفضح بأكبر قدر من الحدّة والشجاعة، الشرور والغدر والخسة والتسلط والاستبداد.

++++++++++++

  • سألني ونحن ما نزال على عتبة باب البيت: هل تعرف نعيمة زعفران؟ قلتُ: ومن تكون نعيمة زعفران هذه حتى أعرفها، هل هي من بلدياتنا؟
  • أدرك حسيب كيالي قيمة الكلمة المكتوبة فاستعملها برهافة مبضع جراح، ويبدو أن ذلك هو ما يحبّبه إلى مريديه ويجعله أثيراً لديهم.
العدد 1104 - 24/4/2024