كسر عظم

د. نهلة الخطيب:

يُنظر تاريخياً، وخاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي، إلى العقوبات الاقتصادية والسياسية التي تتخذها دولة أو مجموع دول بحق دولة أخرى على أنها محاولة لتغيير نهج هذه الدولة أو ثنيها عن خطوات اتخذتها وصولاً إلى محاولة تغيير السلطة فيها، وتتأثر هذه العقوبات المتخذة بطبيعة الدولة المعاقبة وقدرتها الوطنية، وبشبكة علاقاتها الدولية أيضاً، ولذلك تختلف طبيعة هذه الإجراءات وتأثيراتها من دولة إلى أخرى.

وفي هذا السياق ينظر باهتمام إلى العقوبات التي اتخذتها مؤخراً الولايات المتحدة الأمريكية وتماهي الدول الأوربية معها بحق الاقتصاد الروسي على خلفية الأزمة الأوكرانية، والتي تشير إلى العديد من المسائل الهامة بدءاً من طبيعة هذه العقوبات مروراً بمدى تأثيرها وانتهاءً بحجم التوافق بين الدول المشاركة في اتخاذ هذه الإجراءات العقابية، كما ينظر إليها وسط تساؤلات العديد من المسؤولين الروس والغربيين عما إذا كانت هذه العقوبات تمثل عودة لمرحلة الحرب الباردة وسياسة الستار الحديدي التي فرضها الغرب ضد الاتحاد السوفييتي، وعما إذا نجحت هذه العقوبات في وضع حد للحرب الروسية الأوكرانية وثني الرئيس الروسي بوتين في رؤيته بالتعامل مع الملف الأوكراني، فهو يراها حرباً وجودية ضد أوكرانيا والغرب بعد أن وصلت إلى مرحلة كسر العظم، فمعركة باخموت التي تشهد أشرس المعارك منذ أسابيع وصفها عسكريون أوكرانيون بالوضع الصعب للغاية، المدينة في قلب العمليات العسكرية منذ أشهر ولكن الأسابيع الأخيرة شهدت تصاعداً في وتيرة القتال، وأحدث تقييم للاستخبارات البريطانية يكشف أن القوات الروسية استعادت بعض الزخم في معركتها وتقدمت إلى وسط المدينة، كما رجحت أن يكون طريق الإمداد الأوكراني الرئيسي إلى الغرب مهدداً بشدة، وقد ألمح الرئيس الأوكراني للمرة الأولى إلى إمكانية انسحاب جنوده منها.

أهمية باخموت رمزية أكثر من كونها استراتيجية، ذلك أن كييف ترى في المعركة فرصة لاستنزاف القوات الروسية لمعداتها العسكرية، وسط أنباء عن تحضير أوكرانيا لشن هجوم مضاد في الربيع باستخدام المساعدات العسكرية الغربية الجديدة، وبضمنها الدبابات البريطانية، وهذا ما يثير مخاوف الغرب من رد فعل بوتين وتوسيع نطاق الرد.

وفي الوقت الذي تزداد فيه العلاقات تشابكاً وحدّةً بين روسيا والغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، ويتراجع ما اصطلح على تسميته الحرب الباردة، نشهد مرحلة جديدة في العلاقات الدولية القائمة تمثل الأزمة الأوكرانية (لافتتها) والتوازنات الدولية وأدوار الدول الرئيسية العالمية جوهرها الحقيقي، وتؤشر إلى أُفول الأحادية القطبية وبدء مرحلة التعددية القطبية تعيق إمكانية العودة للحرب الباردة, إلا أنها تظهر في الوقت نفسه حجم التباينات والتعارضات الدولية على اختلافها الراهنة والمستقبلية القريبة أيضاً، وتمثل شبكة العلاقات الدولية القائمة مجالاً ضاغطاً على الدول جميعها، فنجد سعياً أوربياً لاستمالة الصين في مواجهة روسيا، ورغبة صينية في جذب حلفاء أوربيين لمواجهة الولايات المتحدة الامريكية، وهما العنوانان الأبرز لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصين التي استمرت ثلاث أيام، الزيارة التي شاركت فيها رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فاندر لاين، والتي فشلت في انتزاع تحولات رئيسية من بكين، فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية مع تحذير دبلوماسي من محاولة الصين دعم روسيا عسكرياً، ماكرون حث نظيره الصيني على استخدام علاقته الوثيقة بروسيا لإنهاء الصراع في أوكرانيا، ومن جانب آخر سعت الصين إلى استمالة ماكرون ضمن تحركاتها الدبلوماسية الهادفة لمواجهة ضغوط أمريكية متزايدة عليها، وخاصة مع تصاعد الخلافات بشأن تايوان والحرب في أوكرانيا والقيود التي فرضتها أمريكا على صادرات التكنولوجيا.

الاحتفاء الصيني بماكرون مثّل علامةً على محاولة بكين التأثير على قوى رئيسية داخل الاتحاد الأوربي، والتقارب الصيني الأوربي سيتواصل في الأسابيع المقبلة، وهذا لا يخفي التوتر المقنّع في علاقات الصين وأوربا التي ترى في الصين تحدياً كبيراً وشراً لابد منه، فمن المقرر أن يصل منسق السياسة الخارجية الأوربية ووزير الخارجية الألماني إلى بكين وهذه الزيارات سيُنظر إليها في واشنطن بدرجة من الشك على الرغم من التحالف الأمريكي الأوربي الوثيق.

بدا التنافس على أشده بين روسيا والدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وفشلت العقوبات الاقتصادية لشل آلة الحرب الروسية، في الوقت الذي تؤكد فيه موسكو أن أمنها القومي وحقوق الأقليات الروسية في الفضاء السوفييتي السابق خطّ أحمر، وليس لديها خيار سوى مواصلة الحرب باعتبار الوضع مع أوكرانيا معقداً وليس هناك أفق لتسويات سياسية، فهل تعكس هذه التباينات والمواقف المتعارضة لدول كبرى وعظمى نفسها على هذه الحرب وتداعياتها؟ وهل يستعمل (الدب الروسي) إمكاناته لحسمها؟ هذا ما ستظهره الأسابيع القليلة القادمة وبضمنها تزايد الضغوط الدولية على الصين لحملها على الانخراط في مساعي السلام في إطار النزاع الأوكراني وسط تصاعد التوتر مع جزيرة تايوان بعد زيارة رئيستها لواشنطن، وقد أثارت هذه الزيارة بكين التي تقول إن الجزيرة جزء من أراضيها. سفن حربية أمريكية تحمل رؤوساً نووية ومناورات صينية عسكرية تصنف الأكثر جدية فمَن يكسر من؟

العدد 1107 - 22/5/2024