مخدر الجياع ومصدر ثراء فاحش!

إبراهيم الحامد:

كتب معلّم رياضة على صفحته: (متعة كرة القدم في مفاجأتها، كل ما لم ترَه عيناك من قبل، تجده اليوم بمونديال المفاجآت في قطر 2022، فاسألوا السعوديين الذين أبكوا كل الأرجنتين، والتونسيين الذين أهانوا الفرنسيين، والمغاربة الذين صفعوا كل المنافسين، والسنغاليين الذين صعدوا مرفوعي الجبين، واليابانيين الذين تصدروا وأطاحوا بالملونين، والكوريين الذين أعادوا للذاكرة مونديال 2002 وأخيرا لا تنسوا أن تسألوا الكاميرونيين الذين أهانوا كبرياء البرازيليين.

فكتبت له هذا الرد:

عموماً هي الحقيقة كما رؤيتك في الرياضة، والتي باتت فعلاً ثقافة الإهانة والشماتة والتجريح والخداع من جهة، وانتهازية مقيتة يتاجر بها الانتهازيون لكسب المال مثلما تاجروا بدماء البشر وأثروا ثراء فاحشاً في حروبهم التي أشعلوها في منطقة شرق الأوسط تحت مسمى (ثورات الربيع العربي). لقد جعلت الطغم المالية العالمية ومرتزقتها من هذه اللعبة – كما تلك الحروب و عبر ذاك الإعلام المؤدلج والمخادع نفس – جعلتها أداة لمسح دماغ الملايين من الجياع، وتفريغ شحناتهم واحتقانهم في شوارع العديد من البلدان التي يعانون فيها من الظلم الطبقي والتهميش، لدرجة ممارساتهم أعمال العنف دون تعرض السلطات لهم، وذلك على عكس التظاهرات المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية والاجتماعية التي تجابه بالقمع. وأعتقد أن ماركس لو كان موجوداً الآن لقال عن كرة القدم إنها (مخدّر للجياع) على غرار (الدين أفيون الشعوب).

صحيح ما نعرفه عن كرة القدم وفي مجال التسلية والترفيه عن النفس، أنها دوري منافسة يحوم حوله صيحات الجماهير الشغوفة بهذه اللعبة، وأنها أهداف وانتصار وخسارة وجوائز. ولكن عرفنا أيضاً أن الرياضة عموماً، ورياضة كرة القدم خصوصاً هي أخلاق ووفاء، وعرفنا أيضاً أنها مواقف إنسانية شجاعة وأداة كفاح من أجل التغيير التقدمي الاجتماعي في حياة البشرية لدى العديد من الرياضيين. ففي ذاك الجانب الإنساني، لقد خلد التاريخ شخصاً، جعل من كرة القدم وسيلة للكفاح، وقال عنه لاعب كرة القدم المشهور بيليه إنه (أذكى لاعبي البرازيل عبر العصور (رجل عظيم) (دكتور) داخل الملعب وخارجه، ولاعب ذو شخصية رائعة، قال ذات يوم: (كرة القدم هي الجمال أولاً، والانتصار ثانياً، وما يهم هو السعادة والبهجة.. لكن لا أريد أن أكون سبباً في أن يتقاتل بسببي شخصان فقيران). هذا عندما كانت رياضة كرة القدم قيماً وأخلاقاً وليست تجارة و انتهازية! فكان ذاك اللاعب هو: سامبايو دي سوزا فييرا دي أوليفيرا، الملقب بـ (سقراط) والمتشبع بالفكر اليساري والمناهض للرأسمالية، لقد تخرج سقراط في كلية الطب، لكن في البداية لم يمارس مهنة الطب لأنه يعشق كرة القدم، وكان أحد أقوى لاعبي خط الوسط والأكثر شخصية و كاريزما في تلك الحقبة، ولقد قاد فريق كورينثانز والسيليساو في نهائيات كأس العالم 1982 و 1986 ولاعب الفيولا وقال آنذاك: ( جئت إلى إيطاليا لألعب مع أنتونيوني أحد أكثر اللاعبين الذين عشقتهم، وأقرأ تاريخ الفيلسوف والمناضل أنطونيو غرامشي صاحب حركة التحرر). كما اشتهر بمقولته الشهيرة: (كورينتانا الديمقراطية) التي هي تعبير ذاتي للاعب طبيب نجح في فرضها خلال فترة لعبه مع ( كورينثيانز) وفي ظل سنوات الديكتاتورية البرازيلية، وقد جعل سقراط من ذلك النادي رمزاً للديمقراطية والحرية وجعل من فريقه مناهضاً للقمع والديكتاتورية، وذلك عندما استولت الدكتاتورية العسكرية بقيادة الجنرال جواو فيغيردو في آذار عام 1964 على البرازيل، واستخدم ممارسات قمعية من اعتقال وتعذيب واختطاف، وكانت أكثر المراحل دموية في حياة البرازيل، فتمكن آنذاك سقراط لاعب كرة القدم البرازيلي من تحويل فريق كرة القدم بكامل جماهيره إلى حزب ثوري مناهض لسياسة السلطة العسكرية الاستبدادية، و لقد ساهم حينذاك في تغيير مسار بلاده لصالح أغلبية الشعب وهم الفقراء، واستخدم كرة القدم وسيلة لتثقيفهم، وقال: (أنا لا ألعب من أجل المال ولا من أجل الشهرة ولا من أجل الألقاب، كل ما أردته هو أن يفهم الفقراء أن انتظار نتيجة مباراة كرة قدم هو ليس أهم شيء في هذه الحياة). وكان آخر ما تمناه في حياته حين قال ذات يوم: (أود أن أموت يوم الأحد، في اليوم الذي يفوز فيه كورينثانز باللقب). وكأنه توقع كل شيء!! وفعلاً في 4 كانون الأول (ديسمبر) 2011 فاز كورينثانز بالدوري، وفي المساء نفسه أعلن من مستشفى آلبرت أنشتاين البرازيلي في ساو باولو عن وفاة ذاك اللاعب الأسطوري والثائر الطبيب الملقب بسقراط، تيمّناً بالفيلسوف اليوناني.

سانتك ماراين_ النمسا في ١٠/١٢/٢٠٢٢

العدد 1105 - 01/5/2024