سقى الله!

محمود هلال:

حبات المطر ونسمات البرد الناعمة أعادتني إلى أيام زمان، أيام كنا نتحلق حول المدفأة طوال اليوم خاصةً أيام العطل، وكنا حينذاك لا نخشى الشتاء والبرد والثلج، لأن الصهاريج والطنابر التي توزع المازوت لا تنقطع، فنترنّم على صوت البائع وزموره، ونتضايق من صوت بائع الغاز الذي كان يقرع على الجرار، وكنا نعدّ ذلك شكل من أشكال التلوث السمعي، حتى بتنا اليوم نترحم على تلك الأيام التي أصبحت كحلم وانتهى ونقول سقى الله على كذا.. وكذا وكذا!

كانت دمشق تعدّ من أرخص عواصم العالم للمعيشة، لكن حسب الخبراء ودراسات المهتمين بالشأن الاقتصادي ومعطياتهم (إن أخفض أجور في العالم هي في سورية). لذا يمكن اعتبار المعيشة في سورية رخيصة مقارنة مع دول الجوار وليس بمستوى دخل الفرد فيها، وهذه نقطة هامة، فمتوسط دخل الفرد في دول الجوار يقارب 1000 دولار شهرياً، بينما في سورية يبلغ نحو 50 دولاراً، أو أقلّ، خاصة بعد الارتفاع الكبير في سعر الصرف، مما سبب زيادة على معظم أسعار السلع الاستهلاكية.

وذلك ما يدفعنا للتساؤل: كيف لأصحاب الدخل المحدود، في ظل موجة الغلاء وهبّة الأسعار التصاعدية التي نشهدها اليوم، أن يتدبروا أمورهم المعيشية والحياتية براتب قليل كهذا؟ في الوقت الذي أصبحت فيه أصغر أسرة تحتاج إلى أضعاف هذا الرقم حتى تستطيع أن تكمل الشهر؟ قد يقول قائل: لا أحد يعيش على راتب واحد فقط، فمعظم العاملين بأجر يعملون عملاً ثانياً. ونقول: هذا صحيح، ولكن هؤلاء لا يعملون (فرفشة) ولا ترفاً أو حباً بجمع الأموال أو لتكديسها أو إيداعها في المصارف، بل يعملون مرغمين على ذلك ليوازنوا بين دخولهم ومتطلبات الحياة الصعبة. يعملون على حساب صحتهم، وعلى حساب راحتهم، يعملون على حساب الجلوس مع أسرهم وأبنائهم، وعلى حساب القيام بواجباتهم الثقافية كالذهاب إلى السينما والمسرح ومشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف والكتب وغيرها، وعلى حساب القيام بواجباتهم الاجتماعية بزيارة الأهل والأصدقاء ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، يعملون لكيلا يتحولوا إلى لصوص ومرتشين وفاسدين في وظائفهم، ولكي يبقوا شرفاء محافظين على كراماتهم في نهاية العمر، ولكيلا يمدّوا أيديهم لأحد أو يتحولوا إلى (شحادين) في الطرقات وعلى أبواب الجوامع والكنائس وغيرها.

كان الراتب في سبعينيات القرن الماضي لحملة الشهادة الجامعية 375 ليرة سورية، وللثانوية 210 ليرات سورية، وللإعدادية 180 ليرة سورية، وكان يكفي العامل ويزيد، ويستطيع أن يدّخر منه لشراء بيت أو سيارة وكل ما يحتاج إليه، أما الآن مع تآكل القوة الشرائية للرواتب والأجور، فلو فكّر العامل بادخار كامل راتبه لاحتاج إلى عقود.

يمكن القول إن العاملين اليوم محاصرون بلقمة عيشهم ويضيق الخناق عليهم أكثر فأكثر! فليكن هناك قليل من الرحمة في القلوب، ويكفي هؤلاء ما هم فيه من فقر وجوع وشقاء! لقد تحمّل المواطن السوري الكثير من العناء في ظل هذه الأزمة التي تجاوزت أحد عشر عاماً ولم تنته بعد، ومازال يحلم بالغد الأفضل والحياة الكريمة والأجمل.

 

العدد 1104 - 24/4/2024