يوميات الحرب – قصة قصيرة | الخُبز

بشار حبّال:

لست أدري هل هو سوء حظّي، أم حسنه يوم عملت في فرن خُبز، ذلك أنني كنت البياع في عزّ الأزمة_ الحرب، أي يوم أصبح الحصول على رغيف الخبز غاية تكاد لا تدرك.

أن تحصل على ربطة خبز معركة حقيقية في الانتظار ضمن حبل طويل وطويل ومتعرج من البشر المتعبين والمنهكين والمذعورين، ومزاحمة الناس والعويل والمعارك التي تدور معك وحولك، والخوف من الجوع الذي يقف على أعتاب البيوت والحارات، ويمكن أن يحدث كل ذلك ولا تحصل على الرغيف الذي تبحث عنه. سأخبركم ثلاث قصص الجامع الوحيد بينها رغيف الخبر في زمن الحرب.

-1-

امرأة شقراء وطويلة، حسنة الملامح وباسمة الوجه موفورة الصحة، ووجه طافح وصبوح، وصدر يعلن عن وجوده العارم كراية للمتعة، تلقي على رأسها غطاء عاديّاً، تقف ضمن صف النساء للحصول على ربطات من الخبز، أنظر من كوة البيع فتقع عيني عليها كلوحة جميلة بين حشد النساء بألوانهن وأشكالهن المتنوعة، ولأن الضجيج حولي لا يطاق تظهر هذه المرأة وكأنها من عالم آخر، بعيونها المصوبة عليّ تحديداً بتركيز الساحر أو من يسعى لإخضاعي بتنويم مغناطيسي. خلال انشغالي بالبيع بين كوة الرجال وكوة النساء، وكلما اقتربت من كوة النساء كنت أراها تنظر إليّ بعيون محتالة تقول لي: جايتك!

يتكرّر هذا المشهد يومياً كلما حضرت لشراء الخبز، تمنحني ابتسامتها من آخر صف النساء جرعة من اللذة تنمو رويداً رويداً حتى وصولها إلى نافذة البيع، فتتشابك عيونها مع عيوني بمسافة لا تزيد عن سنتمترات قليلة، تدخل رأسها من كوة البيع وتقول بصوت خفيض: صباح الخير حجّي! (كم أكره أن يناديني أحد حجّي، لكن معها …).

  • يسعد صباحك وما يحرمني من هاالضحكة الحلوة!

على مدار أيام الحرب أصبح لدينا سرٌّ ما بالعيون تجعلني سعيداً، تبتسم لي من فوق رؤوس صف النساء فأعيد لها الابتسامة بأحلى منها، تجعلها مطمئنة أن ما تريده ستحصل عليه ومدفوع الأجر أيضاً، وأن ما أريده سأحصل عليه مجاناً. هي ماذا تريد مني؟ ربطات خبز إضافية عن بقية خلق الله!

وأنا ماذا أريد (أصبحت أريد)؟ ليس أكثر من تلك الابتسامة المحتالة والحارة كرغيف الخبز، والتي تنتهي بصباح الخير يا حجي، من امرأة عابرة في زمن عابر.

2-

مندوب الأمن دخل من باب موارب كي لا يراه الناس ووقف في زاوية معتمة، في العادة نعطيه عشر ربطات خبز، بغضّ النظر عن شدّة الازدحام مقابل ربطتين للمواطن العادي، لماذا؟ ببساطة لأنه من الأمن! لكن في ذاك اليوم وبينما كنا نحضر لعنصر الأمن طلبه حدث هرج ومرج أمام نافذة الرجال، وسقط بعض الناس على الأرض وارتفع صراخ الأولاد والنساء مرة واحدة، حاولت النظر إلى الخارج لأعرف ما الأمر فلم أتمكّن من ذلك، لأن شابّاً طويلاً وعريضاً بحجم جمل سدّ نافذة البيع وأدخل رأسه والزبد يتطاير من فمه صارخاً بأعلى صوته: بدّي خُبز يا أخوات القحبة! وخبط وجهي بخمسمئة ليرة، أنتو ما بتفهموا بالذوق! قلت له: طوّل بالك شو صاير عليك؟ مانك شايف العالم قدّامك! بعدين أكثر من ربطتين ما منعطي، شو أنت غير شكل عن خلق الله؟! فمدّ يده إلى صدره وسحب مسدساً كبير جداً لم أرَ مثله في حياتي وخبطه على الرخام أمامي وقال: الخبز للثوّار… بتعرف شو يعني ثوّار ولّا فهّمك؟! يلعن أبو النظام وأبو هالبلد، الناس عم تموت وأنتو خبز ما بتعطوهم (مندوب الأمن التصق بالجدار ووضع يده على مسدسه) أنا ماني فاضي وقّف ع الدور، عم تفهم على ربّي؟! قلت له بعد أن أدركت ورطتي: طوّل بالك شويّ! روّق أبو الشباب وشيل المسدس من قدّامي، تكرم عينك بس روق شويّ! التفتّ خلفي وقلت للعمال: يا ولد عطيني بخمسمية ليرة للثوار، يالله ع السريع! وضعتهم أمامه وقلت له: مرّة تانية لا تدفش الناس، أشّر لي من بعيد وأنا بظبّط أمورك، ماشي؟! فرد عليّ: ماشي الحال، منشوف! ثم حمل ثلاثين ربطة خبز وذهب أمام وجوم الجميع. نظرت إلى عنصر الأمن المحشور بالزاوية، فأنزل يده من على المسدس المعلّق على جنبه واستراحت قامته، ثم قال لي:

خلّصني، أخّرتني اليوم كتير!

3-

-يالله، عطيني خبز بدي روح ع المدرسة!

هي طفلة صغيرة تحشر نفسها بين جموع النساء والبنات في عمرها أو أصغر بكثير، قلت لها: بأيّ صفّ أنت يا حبّابة؟!

  • أنا بالصف الرابع.
  • أنت شاطرة بالمدرسة؟ فهزّت رأسها بالإيجاب.
  • طيّب، حافظهة جدول الضرب، فهزّت برأسها. قلت لها: 6 ضرب 6؟ لم تجب وشاغلت نفسها بضرب طاولة البيع بالنقود التي تحملها.
  • شو؟ مبيّن عليك كسلانة! طيّب، 4 ضرب 4؟! لم تُجب، متشاغلة من جديد.
  • لا، أكيد أنتي كسلانة! اليوم رح أعطيك خبز بس بكره إذا ما كنت حافظة جدول الضرب مارح أعطيك خبز، وإذا كنت حافظة رح أعطيك ربطه زيادة.

في اليوم التالي، حصلت الفتاة على ربطة خبز زيادة، تشجّعت للأمر وانتقلت بعد ذلك لأعرف مهارتها بالجغرافيا والتاريخ.

أيلول 2015.

العدد 1105 - 01/5/2024