أمن الطاقة الأوربي بين الحرب والدبلوماسية

د. نهلة الخطيب:

يقول سبنسر أبرهام ما معناه: إن مواجهة التحديات المختلفة لأمن الطاقة تتطلب جهوداً عالمية حازمة ومستدامة لعقود من الزمن)، وهو الأمر الذي يدفع دولاً كبرى كدول الاتحاد الأوربي إلى تبني سياسات وامتلاك أدوات متنوعة تتفق مع الأوضاع الراهنة على الصعيدين الداخلي والخارجي، لمواجهة هذه التحديات في خضم المخاوف التي أطلقتها الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الطاقي الأوربي.

تحركت سياسة الطاقة الخاصة بالاتحاد الأوربي لسنوات بشكل متقطع استجابة لمشاكل غير متوقعة، ومعظمها كانت تخص إمدادات الطاقة الروسية ولم تتنبه أوربا إلى أبعاد ذلك على المدى الطويل، ففي عام 2009 أوقفت روسيا إمدادات الغاز عبر أوكرانيا مما تسبب في تعطيل 18 دولة أوربية، ودفعها إلى تبني حزمة تختص بالغاز والكهرباء وتحث على التنويع والتسويق وإنشاء محطات للغاز المسال، ولكن ألمانيا كانت تشعر أنها أكبر من أن تتصرف على ضوء مثل تلك التغييرات، بل ذهبت في الاتجاه المعاكس بسياسة خاطئة بإنشاء خط أنابيب غاز نورد ستريم1 من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، وجرى تشغيله عام 2011 لينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى أوربا. واستمرت ألمانيا في الحث على تبني نورد ستريم2 عام 2018 وانتهى عام 2021 ليمد أوربا بضعف كمية الغاز التي يضخها نورد ستريم1، الأمر الذي سيجعل ألمانيا أكثر اعتماداً على الغاز الروسي، ذلك أنها لن تشتري كل الغاز الروسي فقط، بل ستصبح دولة عبور رئيسية، وخاصة بعد قرار أنجيلا ميركل إغلاق محطات طاقة نووية آمنة، ولكن لم يكتب له النور.

مع بدء العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا وفشل المحاولات الأوربية وخاصة الفرنسية والألمانية لمنع اندلاع الحرب، وفرض عقوبات اقتصادية على روسيا جعل دول الاتحاد الأوربي تتبع سياسات متضاربة، وقد اتضح تباين المواقف الأوربية من التحدي الروسي وعدم قدرته على الانخراط الكامل في تطبيق العقوبات الأمريكية خاصة في مجال الطاقة نظراً لكونه يعتمد في أكثر من ثلث استهلاكه على روسيا، وهذا ما جعل المستشار الألماني أولاف شولتس يصرح عقب قمة فرساي: (تعمّدت أوربا استثناء إمدادات الطاقة الروسية من العقوبات لأن ذلك سينعكس بشدة على اقتصاد الدول الأوربية)، مضيفاً إن الطاقة الروسية لها أهمية أساسية في الحياة اليومية العامة لمواطنينا.

ويثير هذا الموقف الألماني مخاوف لدى بعض دول الاتحاد الأوربي الذي يبدو أنه يواجه مهمة عاجلة تتمثل بإيجاد بدائل لإمدادات الطاقة الروسية وخاصة بالنسبة لألمانيا وهولندا والمجر التي رفضت دعم أي عقوبات على الطاقة الروسية.                       وقال مسؤول سياسة المناخ في المفوضية الأوربية إن الاتحاد الأوربي قد يتوقف عن الاستعانة بالغاز الروسي في غضون سنوات، ويمكنه في الحد من اعتماده عليه في غضون أشهر، وذلك عن طريق طرح خطط لتنوع إمدادات الوقود الأحفوري في أوربا بعيداً عن روسيا والتحول بشكل أسرع إلى الطاقة المتجددة، وفي إطار سعيه في التنوع بإمدادات الطاقة بدأت دبلوماسية الغاز تتحرك وكبار دول أوربا بدأت مفاوضات فردية للفوز بعقود غاز جديدة مع الدول المنتجة، فاتجهت ألمانيا إلى دول الخليج وبالتحديد قطر، واتجهت إيطاليا وإسبانيا إلى إفريقيا (الجزائر ومصر ونيجيريا)، والولايات المتحدة الأمريكية وأذربيجان والنروج مولت بريطانيا ودول غرب أوربا. ورغم ذلك لن تكون هذه الحلول مجدية لعدم قدرتها على تعويض الغاز الروسي، إضافة إلى ارتفاع أسعاره وعدم توفر خطوط لنقله.

تحدث جوزيب بويل كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوربي أن تكلفة شراء الاتحاد للغاز الروسي يومياً تبلغ حوالي مليار يورو، ومن الواضح أن هذا مصدر دخل يستخدم لتمويل الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع تسارع وتيرة التوترات بين الطرفين وعدم النية على الحسم، فإن العجز الأوربي واضح في فطم نفسه عن الطاقة الروسية وملء مخزون الغاز قبل الشتاء لتخفيف صدمات الإمداد، فبدأت مرحلة كسر العظم في حرب الطاقة بين الطرفين الأوربي والروسي، ففي 2\9\2022 اتفقت مجموعة دول السبع الكبرى G7 على تحديد سقف لأسعار النفط الروسية في أعلى سقف لها حتى لا يبقى متذبذباً ويرتفع إلى خارج السيطرة، وخفض إيرادات روسيا من مبيعات النفط، في الوقت نفسه هددت روسيا بوقف صادراتها من الطاقة إلى الدول التي تنخرط في هذه العملية وفعلت، تلاها تفجير خط نورد ستريم1 شريان حياة أوربا الذي أصيب بأضرار واسعة النطاق، وإصلاحه سيستغرق 6 أشهر على الأقل، وعكس قرار منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك والدول المنتجة للنفط المتحالفة معها أوبك بلس خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً حالة التوتر السائدة نظراً لما له من تداعيات سياسية واقتصادية سلبية على الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا بشكل خاص.

يبدو أن أمن الطاقة الأوربي دخل مرحلة حرجة من المواجهة الجيوسياسية والاقتصادية، ووصلنا إلى احتقان شديد عند كل الأطراف قد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوربي وحرب بلا ضوابط قد تتخذ منعطفاً خطيراً خاصة بعد تجاوز الخطوط الحمر، باستهداف منشآت البنى التحتية بروسيا بعد تفجير جسر القرم الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم، وأن تفجير الجسر سيفتح صندوق باندورا الذي خرجت منه كل شرور البشرية حسب الرواية الإغريقية.

العدد 1105 - 01/5/2024