أوربا تعيش معضلة حقيقية!

د. صياح فرحان عزام:

القارة الأوربية (العجوز) كما أطلق عليها الأمريكيون، تغلي بسبب أولاً الجفاف غير المسبوق، والتناقضات السياسية الصارخة المرتبطة بالأزمة في أوكرانيا ثانياً، إذ إن هذه الأزمة تزيد من الضغوط على الاتحاد الأوربي المنهك من تداعيات كورونا، إضافةً إلى ارتفاع فاتورة الطاقة والغذاء، فارتفاع الأسعار يزيد من معاناة الأسر والشركات من جفاف يتمدّد بشكل مقلق، ليصل إلى الاحتياطات النقدية، ما قد يؤدي إلى رفع الفائدة وزيادة معاناة 340 مليون نسمة (سكان منطقة اليورو).

ويتفشى جنون الأسعار في أسواق 19 دولة تتعامل باليورو، وترزح في فخّ التعادل مع الدولار الأمريكي المرشح لمزيد من التصاعد، ففي حين أن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء لم يكن أمراً مفاجئاً، فإن القفزة في تكاليف الخدمات وتضخم أسعار السلع غير المرتبطة بالطاقة، تشير إلى أن الأزمة أعمق مما يتصوره البعض، وأن وباء التضخم آخذ في التمدد بشرايين الاقتصاد بأكمله.

إضافة إلى المخاوف الاقتصادية، هناك تباينات واضحة بين دول الاتحاد الأوربي ظهرت في اجتماعات بروكسل وبراغ، وهذه التباينات آخذة في الاتساع، لدرجة أن مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوربي جوزيف بوريل أقرّ مؤخراً بالانقسامات الحادة حول الموقف من روسيا، والتعامل مع المسألة الأوكرانية، معترفاً بأن الاتحاد سيواجه على المدى القصير تحدّيات جدية، في محاولة منه لتلطيف تحذيرات رئيس الوزراء البولندي ماتيوز مورافيسكي على صفحات صحيفة لوفيغارو الفرنسية، من احتمالية (حدوث انفجار) داخلي في الاتحاد الأوربي بسبب الانقسام بين الدول التي تريد السلام، والدول التي تراهن على انتصار أوكرانيا.

بعض المحللين والخبراء السياسيين والعسكريين الغربيين يقارنون مشهد أوضاع الاتحاد الأوربي الحالية المترنحة، والذي يئن تحت تساؤلات مصيرية، بمشهد حقبة الاتحاد السوفييتي الأخيرة قبل انهياره بسبب الحرب الباردة التي أنهكته، إلى جانب سباق التسلح الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية عليه قبل ثلاثة عقود خلت، وقيام الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، الذي توفي مؤخراً، بالإعلان عن نهاية حقبة الاتحاد السوفييتي وتسليمه مفاتيح الرؤوس النووية إلى روسيا الدولة الوريثة.

إن مثل هذه المقارنة رغم الفارق في المشهدين الدوليين السائدين تدعو إلى التأمل، وتتطلب من الدول الأوربية وخصوصاً الدول المركزية منها مثل ألمانيا وفرنسا، مقاربات جديدة لأوضاع الاتحاد الأوربي التي جئنا على ذكرها، مقاربات واقعية وجدية وسريعة في الوقت نفسه باتجاه اتخاذ موقف أوربي بعيد عن اللهاث وراء الولايات المتحدة الأمريكية والالتزام بسياساتها التي جرّت وتجرّ أوربا إلى مثل هذه الأوضاع المترنحة والصعبة، وبما يضع مصلحة الأوربيين في موقع الأولوية، بدلاً من التبعية المطلقة لسياسة واشنطن التي تراعي المصالح الأمريكية الأنانية قبل كل شيء وعلى حساب مصالح من تسميهم واشنطن (حلفاء) بالاسم، في الوقت الذي لا تُقيم لآرائهم ومصالحهم أي اعتبار.

 

العدد 1105 - 01/5/2024