حول ترتيب الأولويات

يونس صالح:

من أعقد المشاكل التي تواجه حركات التغيير الاجتماعي تحديد نقطة البداية في هذا التغيير، وترتيب الأولويات في برامجها، ذلك أن قادة الدعوات إلى التغيير يبدؤون مسيرتهم في أكثر الأحيان، وهم يحملون فكرة أو عقيدة أو مذهباً حول التغيير، يطرحونه على الناس، ويدعونهم إلى اعتناقه والالتفاف حوله، مرجئين حديث البرامج العملية، وترتيب الخطوات المتعاقبة للحركة إلى مراحل تالية من مراحل عملهم السياسي والاجتماعي.

إن الواقع الاجتماعي لا يلتزم دائماً بتقديرات القادة والزعماء، وقد يفاجئهم بالتفاف الناس حولهم، واستجابتهم لدعوتهم، فإذا بهذه الجموع تسأل: ها قد جئنا، فماذا نفعل الآن؟ وإذا بالأنصار والخصوم- على السواء- يطالبون بتحديد مراحل الحركة وأولويات العمل والقيادات ماتزال، بعد، تبحث عن أطراف الخيوط، وتجتهد في تمييز ما يحتاج إلى العمل السريع، وما يحتاج إلى الإرجاء والانتظار، وإذا طال بها أمد هذا البحث، وعجزت عن تقديم الجواب، فإن جماهير المؤيدين تبدأ بالانفضاض، ولا تجد مفرّاً من أن تمارس هي ذلك كله على مسؤوليتها، وبمقدار نصيبها من المعرفة والحكمة، وما تتمتع به من حنكة وفهم لأصول العمل الاجتماعي، وهي في اجتهادها هذا تتعرض للخطأ والصواب، وتتفرق بها سبل الحركة وزوايا النظر إلى الأولويات.

ولعل الحركات التغييرية التي تسعى إلى بناء النهضة المعاصرة تعاني من هذه المشكلة، مشكلة ترتيب أولويات العمل، ذلك أن ترتيب الأولويات تتنازعه اعتبارات مختلفة، وتتوزعه معايير عديدة، فهو ليس قائماً على تقدير الأهم والمهم من حيث المصلحة

الاجتماعية العامة فحسب، وإنما يتداخل في تحديده عنصران متميزان:

أولهما- ترتيب القيم في إطار التصور الاعتقادي الشامل، وهو ترتيب قد يتفق وقد لا يتفق مع الترتيب القائم على رعاية المصلحة الاجتماعية كما يقررها الناس.

أما العنصر الثاني: من ملاحظة درجة الثبوت و(قطعية) المصدر الذي يستند إليه الحكم محل البحث، فما ثبت بدليل قطعي يكون أوفر نصيباً في برامج التغيير، بينما تتراخى في الترتيب أمور أخرى، إذا لم يحمل دليل ثبوتها درجة اليقين التي تحملها نصوص أخرى، ربما كانت تعالج أموراً أقل أهمية، أو أقل اتصالاً بالمصلحة الاجتماعية الظاهرة.

وهنا، لابد من ملاحظة حقيقتين كبيرتين في السعي لترتيب أولويات العمل:

الأولى: عدم إمكانية اعتقال الواقع الاجتماعي، وأن لا توضع أولويات منعزلة تماماً عن حاجات الناس، في الظرف التاريخي الملموس.

الثانية: عدم ترك الأمر كله للواقع الاجتماعي، لتحديد أولويات العمل، إذ لابد أن يحمل في ثناياه رؤية معينة تعكس قيماً محددة، فالاستسلام الكامل للواقع الاجتماعي يعني التخلي عن الدور الأساسي في توجيه المجتمع.

وفي ضوء التسليم بهذه الحقائق، وفي ضوء استقراء الواقع الاجتماعي والسياسي عندنا، يرى البعض أن هناك أموراً ثلاثة أساسية في رأس الأولويات:

  • الأولوية الأولى: المشاركة مع القوى السياسية والاجتماعية في دفع أخطار التبعية السياسية والاقتصادية للبلاد.
  • الأولوية الثانية: تحريك الوعي لحقيقة العالمية في ظواهر هذا الوضع، ذلك أن دوائر الانتماء الوطني والإقليمي والقومي لم تعد قادرة على فرض نفسها على أشد الظواهر المعاصرة خطورة، وتأثيرها على الحياة المادية والمعنوية للناس، ومن جهة ثانية تشخيص أزمة إنساننا المعاصر، والإسهام الحقيقي في ملامح آثارها الجانبية الكبيرة.
  • الأولوية الثالثة: لم شمل الشعب وتصفية التمزق الداخلي، وتعزيز الجبهة الداخلية لأن الاستمرار في الوضع الحالي يغلق الباب في وجه كل أمل مشروع في المستقبل، ويرى البعض الآخر أن هناك أولويات أخرى، والحقيقة أن الأمر يحتاج إلى حوار وطني شامل.

بيد أن لا غنى عن تحديد أولويات يفرضها الواقع، وعلى حركات التغيير حسب رأيي أن ترتفع إلى مستوى التحديات التي تفرضها المهام التاريخية للمرحلة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024