الاستشراق بين التزوير والمصداقية

يونس صالح:

لم يبرأ الاستشراق من الإصابة بعدد من النواقص التي اتخذت هيئة عوائق معرفية، كوّنت الأساس لما صار يعرف بأزمة الاستشراق، وقد أنتجت هذه العوائق المعرفية للاستشراق آثاراً نتجت عنها مترتبات عادت بالضرر على الظاهرة الاستشراقية بعامة، في سياق تأثيرها الثقافي والمعرفي.

وبالرغم من ضرر تأثير تلكم العوائق في فاعلية الاستشراق وسمعته، فإنها لم تصل لدرجة تستطيع عندها طمس الإنجازات العلمية والآثار المعرفية التي أنتجها التوجه الاستشرافي.

أصيب الاستشراق بعدد من نقاط الضعف التي أسهمت في إضعاف بنيته المعرفية، وزعزعة قوته العلمية، وتوهين الثقة في مراميه وعروضه ونتائجه، وشكل هذا كله مبررات للهجمات الضخمة التي تم توجيهها إليه.

لقد كونت نقاط الضعف تلك عوائق معرفية أصابت الطرح الاستشراقي القائم على مقاربة وتلمس العالم العربي على مختلف المستويات ومن كل الزوايا، فما هي هذه العوائق؟

– التورط الديني: حين تدخل الإيديولوجيا ساحة الممارسة المعرفية، لابد أن تكون النتيجة سيئة، من حيث المردود العلمي والنتاج البحثي، وانطلاقاً من هذه المسلمة كانت طبيعياً أن يتشوه العمق العلمي للاستشراق بما لابسه وخالصه من تأثيرات الخلفية الدينية التي سيطرت على توجهات وأهداف كثير من المستشرقين، ولا أعمّم هنا كي لا أظلم آخرين كانوا أبرياء من المسبقات الإيديولوجية.

لقد حاول بعضهم توظيف التوجه الاستشرافي ليكون وسيلة تبشيرية، وآلية يعتمد عليها وسط المجتمعات الشرقية.

وقد أسهم هذا التوظيف الديني في تشويه السمعة العلمية للظاهرة الاستشراقية، وجعل منها محلاً للريبة، ومواطن للتهمة، حتى طال التشويه كثيراً من نزهاء المستشرقين الذين لم يرضوا بجعل الاستشراق مجرد آلية ضمن سياق الاستراتيجية التبشيرية العالمية.

– التورط السياسي: حين كتب إدوارد سعد كتابه الاستشراق، كان مرتكز نقده متمثلاً في تلك الارتباطية التي وصلت بين الاستشراق من جهة والإمبريالية الاستعمارية من جهة أخرى.

وقد زعزعت تلك الارتباطية ما كاد أن ينصب من جسور الثقة والتواصل بين عالم الباحثين والمثقفين في منطقتنا، وباحثي الاستشراق لاسيما الذين تورطوا في علاقات مع جهات سياسية للدول الاستعمارية من ذلك مثلاً لويس ماسينون.

وليس يخفى حرص وزارات الخارجية الاستعمارية على الاستعانة ببعض المستشرقين في أهداف سيطرية، لاسيما من طرف فرنسا وإنكلترا، ليس من الخطأ الربط بين الاستشراق والاستعمار، ولكن الخطأ في التعميم وتوسيع دائرة الاتهام وتصوير الحركة الاستشراقية كلها في هيئة أداة استعمارية، وقد عرف كثير من المستشرقين ببراءتهم من التورط في السياسة.

– التورط في المركزية الأوربية وآثار هذا التورط لا يخفى الأثر الذي أوجدته المركزية الغربية في الخطاب الاستشراقي، وهي من أوضح المثالب التي تمركز حولها نقاد الاستشراق.

لقد ظهر وهم المركزية الغربية في طروح كثير من المستشرقين، ولعل أشهرهم أرنست رينان الفرنسي، حين قرر تمايز البنية المعرفية للعقول بحسب الأعراف، فقد رأى أن العقل الغربي منذ اليونان عقل إبداعي مقابل العقل الشرقي الذي لا يجاوز دور المحاكاة والاسترداد.

إن تلك المركزية تتبنى فكرة محورية مفادها أن (الهوية الأوربية متفوقة بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الأوربية).

إن تورط الاستشراق في خطيئة التعالي الغربي صنع عائقاً معرفياً أسهم في تثبيط التأثيرات العلمية والمعرفية التي تلقتها الساحة الثقافية الشرقية، وقد عبر إدوار سعيد عن وقوع الاستشراق في هذه الحالة فقال: (لقد استجاب الاستشراق للثقافة التي أنتجته، أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم).

– آثار ضعف الأدوات: لقد ترتب على ضعف الأدوات البحثية تأثير بليغ على مستوى النتائج والأفكار التي حوتها بحوث أكثر المستشرقين. وبسبب ضعف التمكن من اللغة العربية، والعجز عن استكناه أغوارها وقع كثير من المستشرقين في أغلاط كبيرة على مستوى الفهم والتأويل، مما أدى إلى سيل من الانتقادات للاستشراق، بدءاً من (الشدياق) في القرن التاسع عشر إلى شكيب أرسلان، إلى وقتنا الحاضر، ولايزال سيل النقد جارفاً على المنتج الاستشراقي، بيد أن الكثير من الجديد منه ليس أكثر من صراخ وشتائم واتهامات يكيلها كتابنا الجدد، ثم يهرقونها على وجه الحركة الاستشراقية بعيداً عن الروية والتدبر والمنهجية في النقد والنقض والتمحيص.

 

العدد 1105 - 01/5/2024