التعليم من أجل السلام

جمانة جوزيف أوسي:

انعقد بباريس بتاريخ 28 – 29 – 30 حزيران مؤتمر للتعليم بعنوان (قمة التحول في التعليم) وقد تضمن خلاله عرض لمبادرات شبابية في التعليم وسيتم مناقشة نتائج هذه القمة في المؤتمر الذي سينعقد في أيلول القادم في مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك والذي سيضم قادة التعليم والتغير الاجتماعي في العالم.

ما هو المقصود بعبارة (تحويل المعرفة)؟!

يهدف التعليم إلى التغير وذلك من خلال:

  1. التعلم من أجل المعرفة: لنعرف أكثر ولكي نزيل معرفة قديمة ونستبدلها بمعرفة جديدة.
  2. التعلم من أجل العمل: لكي نزيل السلبيات التي تضعف وتؤخر العمل ونستعيض عنها بالإيجابيات التي تحقق إنتاج أفضل.
  3. التعلم ليكوّن الفرد بعده الفردي: لتحقيق وجود وبناء إنسان أفضل.
  4. التعلم للعيش مع الآخرين (البعد الاجتماعي): تقدير ومشاركة الآخرين بمحبة وصدق.

ولتحقيق هذه الأهداف من التعليم هناك مبادئ أساسية وضرورية:

  1. المبدأ الإنساني: تأكيد مكانة الإنسان في نظام المجتمع ونظام الوجود عامة (بناء الإنسان وتكوين البعد الفردي لديه).
  2. المبدأ الديمقراطي: تنمية التعاون بين المواطنين والمساهمة في خدمة المجتمع واتخاذ القرارات.
  3. مبدأ التربية للعلم: ترسيخ العلم لدى المتعلم منهجاً ومحتوىً والإسهام في البحث العلمي.
  4. مبدأ التربية من أجل العمل: الربط بين الفكر والعمل وإعداد المتعلم لمطالب العمل وتطوراته المستقبلية.
  5. مبدأ التربية للحياة: توثيق الصلات بين التربية والمجتمع وتمكين المتعلم من التطور باستمرار.
  6. مبدأ التربية المتكاملة: تربية شاملة ومتوازنة لجميع الجوانب من المهد إلى اللحد.
  7. مبدأ التربية الإنسانية: وحدة الجنس البشري والمساواة بين شعوبه والأخوة والسلام والتعاون الدولي.
  8. مبدأ الأصالة والتجديد: تنمية القدرة الابتكارية والإبداعية والتمسك بإيجابيات الماضي لبناء حاضر ومستقبل أفضل.

(إن وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية تبني معاييرها وفقاً للمبادئ السابقة).

 

ما هو السبب في تأخر الحركة التربوية – التعليمية؟!!

تمر البشرية اليوم بظاهرة عالمية تسمى العولمة تسعى لتوحد فكري ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي، تحمل تحدياً قوياً لهوية الإنسان خاصةً بما يستهدف القيم والمثل والفضائل من خلال التركيز على الناحية الثقافية وتوظيف وسائل الاتصال ووسائل الإعلام والشبكة المعلوماتية (الانترنيت) والتقدم التكنولوجي بشكل عام لخدمة ذلك، فلم يعد هناك أي حواجز جغرافية أو تاريخية أو سياسية أو ثقافية، وأصبح العالم يخضع لتأثيرات معلوماتية وإعلامية واحدة تحمل قيماً مادية وسياسية تسعى لتحويل الإنسان إلى مستهلك يخدم مصلحة صاحب المال والمؤسسات الكبرى في العالم، الأمر الذي أدى إلى نشوب الخلافات والنزاعات وقيام الحروب بين الدول لأن الشركات الرأسمالية تريد السيطرة على موارد الشعوب ومنع أصحاب الحق من الاستفادة منها (علاقات بعيدة عن التعاون والمشاركة والتواصل الإيجابي).

وهنا جاءت الحاجة إلى أهمية مواجهة خطر العولمة وذلك بالاهتمام بالتربية والتعليم والعمل على تطويرهما من خلال تحويل المعرفة لتحقيق الاستثمار في التحول الاجتماعي، والتي تجعل حركة التربية والتكوين تستجيب لحاجات التنمية المجتمعية بكل أبعادها الروحية والفكرية والمادية قابلة للتصرف في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية لكي تستجيب لحاجات الاندماج في القطاعات المنتجة لمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية أي العمل على تطوير العلاقات الاجتماعية.

ولكن كيف ستتمكن الحركة التربوية – التعليمية من تحقيق ذلك ونحن لدينا اليوم مجموعة من الدول الرأسمالية متحكمة في الاقتصاد العالمي وهذه الدول تحقق نمواً كبيراً الأمر الذي جعلها تبحث عن مصادر وأسواق جديدة لكي تجعل حدودها الاقتصادية تمتد وتفسح المجال لسيطرة رأس المال؟ كيف ستواجه الحركة التربوية – التعليمية الحروب وتمنع حدوث الأزمات؟!!

بالدرجة الأولى نحن بحاجة للبحث عن أفضل الطرق والحلول واستقطاب أصحاب الخبرة في تصميم البرامج التربوية ودعم أصحاب الخبرات والمبادرات الوطنية الصادقة التي تهتم بأن الركيزة الأساسية في التعلم هي تحويل المعرفة لتحقيق السلام، وهي (التعلم للعيش) من خلال التأكيد على:

  1. كيفية العيش مع الآخرين.
  2. تجنب العنف.
  3. التنافس الإيجابي بدلاً من الصراع.

فالعالم الذي نهيئه لأجيال المستقبل سيعتمد على قدرتنا برفض المداخل العنيفة وغير السليمة، لذلك التربية من أجل السلام هي الركيزة الأساسية لتحسين علاقات البشر في الأسرة وفي المدارس وفي أماكن العمل، وداخل البلدان وعبر الحدود وذلك يتطلب أن يتضمن البرنامج أو المنهج القيم والمفاهيم المقترنة بمفهوم السلام:

  1. العلاقات مع الشعوب الأخرى.
  2. التفاهم العالمي.
  3. التسامح وقبول الآخر.
  4. الديمقراطية.
  5. حقوق الإنسان.
  6. الوحدة الوطنية.
  7. التعايش السّلمي.
  8. العدل والتعاون والمشاركة.
  9. التعددية الثقافية والعرقية.

إن التربية من أجل السلام لا تعني وقف الصراعات والنزاعات والحروب بين الدول فقط، وإنما تعني الاهتمام ببناء شخصية الفرد أولاً ليكون إنساناً مسؤولاً قادراً على حماية حقّه وأملاكه وتطوير معارفه وموارده ليخدم فيها الآخرين بمحبة.

توجد الآن بعض الدول التي عملت لتعزيز التعليم من أجل السلام مثل: إيرلندا الشمالية، البوسنة والهرسك، سيراليون، جنوب إفريقيا. هذه دول عانت من الصراعات لفترة طويلة نسبياً، يمكن الاستفادة من تجربتها ولكن من خلال مبادرة وطنية. (يوجد في سورية مبادرة باسم (رحلة حبة قمح) دعت لزرع القيم والعادات التي تدعو للسلام من خلال دمجها بالمناهج الوطنية).

 

هل تحويل المعرفة لتحقيق التحول الاجتماعي وبناء السلام تتوافق مع مفهوم التطبيع؟!!

إن التربية من أجل السلام تعني الاعتراف والإيمان بحقوق الإنسان كاملة والعمل على خلق بيئة آمنة ليتمكن من تحقيق العيش المشترك أي الاعتراف الكامل بالحقوق.

أما التطبيع فهو التطبع بالشيء وهو مرحلة من مراحل تصنيف بلوم السلوكي في المجال النفسي الحركي حيث يأتي في المرحلة الأخيرة:

  1. التقليد والمحاكاة (غير قادر على تنفيذ التعليمات وحده).
  2. المناورة (يتبع التعليمات).
  3. زيادة الدقة (يعمل ولكن بإشراف مرشد).
  4. الحرفنة (يستطيع العمل وحده).
  5. التطبع (لديه خبرة عالية بالشيء).

إذاً التطبع هو تدرب الفرد ليصبح قادراً على المشاركة ضمن مجتمعه وبيئته بشيء محدد، هو لا يبني الإنسان على قيم ومبادئ، ولا يهتم بأن تطالب الأفراد بحقوقها ولا يعنيه بأن تتعايش المجتمعات مع بعضها البعض وإنما هي كلمة أو مصطلح استخدمته اسرائيل لكيلا تعترف بحقوق الدول المجاورة لها.

 

ما هي المجالات التي يجب أن تتضمنها الحركة التربوية – التعليمية في تحويل التعليم لتحقيق السلام؟!! (المجالات التي تبنى عليها المعايير).

  1. حقوق الإنسان، كحقوق الطفل وحقوق المرأة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية وحقوق كبار السن، الخ…
  2. التحول نحو اللاعنف وتسوية الصراعات وإدارتها والوساطة والتفاوض.
  3. التعليم من أجل العدالة الاجتماعية والقضايا الاقتصادية مثل التجارة المشروعة والفقر والتنمية.
  4. التعليم متعدد الثقافات كالتمييز الثقافي والعنصري والصور النمطية والتمييز ومعالجة مشاكل اللغة والعرق.
  5. التنمية المستدامة كقضايا الصّحة والأمن البشري والإضرار بالبيئة.
  6. تنمية مهارات الحكم والقيادة من خلال الديمقراطية والمواطنة والتربية المدنية والعمليات الانتخابية ومشاركة المجتمع المدني ووسائل الإعلام.
  7. تعليم السلام الداخلي، السلام مع الذات، تقبل نقاط الضعف والعمل على تغييرها بإيجابية.
  8. قضايا الجنسيين كأدوار المثليين في المجتمع وفي بناء السلام وتحقيق العدالة والعمل على توضيح معنى ومفهوم النوع الاجتماعي، أي العمل على معالجة العنف القائم على النوع الاجتماعي للتخفيف منه والعمل لإعادة المسار الصحيح للجنسيين والمثليين.

 

كيف نفعّل التعليم من أجل السلام في المناهج الدراسية؟!!

  1. مواد العلوم: تعزيز مهارات البحث العلمي الآتية: الملاحظة، المقارنة، التصنيف أو الترتيب بالتسلسل، جمع المعطيات وتسجيلها وعرضها وتفسيرها، استخدام الأرقام والأعداد، التواصل، التخطيط لأبحاث بسيطة وتنفيذها، القياس، التوقع، الاستدلال، الاستنتاج، استخدام العلاقات الزمانية والمكانية، وضع فرضية، تكوين نماذج واستخدامها، تنفيذ تجربة.

مع التأكيد من خلال الأنشطة على زرع قيم التفكير والبحث العلمي مثل أخلاقيات استخدام الطاقة من ماء ورياح وكهرباء والطاقة النووية والكيماويات والتخلص من النفايات وإعادة تدوير المخلفات، الخ…

والاهتمام بدراسة البيئة من خلال التربية على كيفية المحافظة عليها والحدّ من التلوث وجميع مظاهر الاعتداء عليها بما فيها أرض وماء وهواء، فالعدوان على البيئة لا يقل خطورة أو عنف من الاعتداء على الإنسان، كما يجب أن تهتم مواد العلوم بالتربية المناخية، يعاني كوكب الأرض اليوم من التغيير المناخي، فعندما يتعرف الطفل والناشئ والشاب على كيفية تأثير المناخ فيهم وما الذي يستطيعون فعله من أجل حماية أنفسهم من الآثار السلبية لهذا التغيير وكيفية التقليل من نسبة تأثيرهم فيه كما يساعد تعليم التغيرات المناخية على زيادة مرونة المجتمعات الضعيفة بوصفها أكثر عرضة للتأثر سلباً بتغيير المناخ.

  1. مادة التربية الدينية: التأكيد على الركن الرابع من أركان التعليم (كيف نعيش جنباً إلى جنب مع الآخرين؟) وذلك من خلال التركيز على قيم المساواة والمسامحة والثقة المتبادلة، التواضع والبساطة والتفاهم، احترام وتقدير أوجه الشبه والاختلاف، تقدير قيمة الانفتاح والاستماع للآخر، إتقان فن الحوار والتفاوض والإصغاء، الصدق والصوم، الخ…

تعزيز القيم السابقة يهدف إلى إدراك جماعي للتنوع الديني وتشجيع للعلاقات الإنسانية الصادقة، ومن الضروري تعريف الطفل والناشئ بأن الدين لا يقتصر فقط على الأديان السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وإنما هناك أديان أخرى تحتوي على قيم وتعاليم جميلة مثل البوذية والهندوسية والكنفوشية…

  1. اللغة: الاهتمام بدراسة النصوص والأدبيات التي تعرّف الطفل والناشئ بحقوقه وتزرع فيه قيم العدالة والمسامحة والوفاء.
  2. المواد الثقافية (فنون، مسرح، أغاني…) التأكيد على الجمال والتعبير عنه بإيجابية.

كيف نفعّل دور المبادرات لزرع مفهوم التعليم من أجل السلام؟!!

إعداد برامج تهتم بـ:

  1. التثقيف في مجال السلام (فن التفاوض، كيفية حل الصراعات والخلافات).
  2. التربية المدنية (زرع قيم المجتمع الاشتراكي داخل المؤسسات كافة، تقدير واجبات وحقوق المواطن،…)
  3. التعليم الذاتي (إكساب الطفل والناشئ والشاب مهارات التعلم الذاتي).
  4. جواز مرور إلى النجاح.

)لقد اهتمت مبادرة (رحلة حبة قمح) بالبنود السابقة خاصة الثلاثة الأخيرة وأكدت على أهمية التربية الاقتصادية).

إن عملنا جميعنا مدارس (كادر إداري ومعلّم) مع البيئة المحلية الأسرة، الجيران، الباعة، الأندية (نوادي رياضية، كنائس، جوامع، مراكز مجتمعية وثقافية..)، نستطيع أن نقف بوجه الغزو الفكري والإعلامي الذي اجتاح مجتمعنا ونستطيع أن نواجه الخلل الذي اجتاحه وأن نقف بوجه الأفكار التي دخلت إليه مثل مفهوم النوع الاجتماعي الاختلاف والمثلية التي ظهرت نتيجة التعنيف والتميز بينها وبين المثلية ذات الأثر البيولوجي ومعالجتها، احترام اللون والعرق، الخ…

في هذه الحالة سنتمكن من مواجهة بعض الدعاة بمعرفتهم بالمناهج التربوية الذين يطالبون بعرض صور تُعبّر عن الأسرة المثلية، وللأسف تمادى البعض بعرض الرسومات على مواقع التواصل الإيجابي بحجة وجودها في مناهج تربوية عربية (أنا أستبعد وجود مثل هذه الرسومات في مناهجنا وخاصّةً المناهج السورية) ولكن من الضروري الإضاءة عليها لأنها تمثل شكلاً من أشكال التعنيف الذي يتعرض له التعليم.

إن التحويل في المعرفة يعني التربية الاجتماعية من أجل السلام ويحظى هذا النوع من التعليم اليوم باهتمام دولي وإقليمي ومحلي…

فالمشروع التربوي هو خير مشروع تخطط له الدول والمؤسسات التعليمية، لأن نجاحه نجاح المجتمع بأسره وارتقاء بكل أطيافه فكلما تألقت التربية تعافى المجتمع، وإذا تعافى المجتمع دبّت الحيوية في عروقه وأصبح قادراً على العطاء والإنتاج، وكلما تقهقرت التربية خبا بريق الأمة ووجدت نفسها وجهاً لوجه أمام خطر ينذر بتراجع الفكر وانحسار الرؤية. فكيف إذا كانت المبادئ والأسس التربوية التي نعمل عليها مبنية لتحقيق السلام مع الذات ومن ثم مع الآخر عندئذٍ سنتمكن من التفاوض مع الشعوب والدول والمؤسسات والمجتمعات الأخرى.

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024