بناء السّلام طريقه الإنسانيّة

نور سليمان:

لطالما عانَت شعوب العالم من الحروبِ والقتلِ والأزماتِ المتلاحقة من كوارث طبيعيّة وتحديات مصيريّة على مرّ العصور ولكن باختلافٍ بسيط للأدوات المستخدمة، ففي يومنا هذا باتَت الأسلحةُ المتطوّرة نوعاً من الدّمار الشّامل الذي يُهدّد الإنسان وأرضهِ، والنّزاعات تنهش به من جميع الاتجاهات مخلّفةً وراءها مآسي بشريّة ليسَ لها نهاية، الأمر الذي يجعلُ من العمل الإغاثيّ والإنسانيّ قاربَ نجاةٍ للبائسين وعروةَ أملٍ للمستضعفين، ولذلك تُعلّق عليه آمال كبيرة وتُناط به مهام جَسيمة، وحريٌ به أن يكونَ وليد الإنسانيّةِ وقرين مبادِئها.

يبرزُ العملُ الإغاثيّ والإنسانيّ في المجتمعات الحالية كإحدى الظّواهر التي تميّز حضارات هذه الأمم، وحجم الانخراط فيه الذي يعدّ أحد العوامل المؤثرة في تراتبيّة الأمم والشّعوب، باعتبارهِ أحد متطلّبات الحياة، ويأخذُ أشكالاً متعدّدة: ابتداءً من تقديم الخدمات الإغاثيّة للمنكوبين، مروراً بالإنفاقِ على التّعليم والصّحة، وتقديم الخدمات الاجتماعيّة لرعاية كبار السّنّ واليتامى والمشردين. وانطلاقاً من دور هذه الخدمات في استقرار المجتمعات تتعدّد الدّراسات المؤطرة للعمل الإغاثيّ والإنسانيّ وضروبه المختلفة، ليكونَ انطلاقه على أساسٍ علميّ يستشرفُ آفاقَه ويحلّل أبعادَه إيجاباً وسلباً. هذا على صعيدِ العملِ الإنسانيّ العالميّ، أمّا على الصّعيد العربيّ فإنّ ثمّة غياباً لافتاً للدّراسات العلميّة المتعلقة بالعمل الإغاثيّ والإنسانيّ، والتي تؤصّل لهذا العمل وتشرح جوانبه المختلفة وعوائق تطوّره. والمشكلات المُتعدّدة التي تقف في طريقهِ، وعلاقتهُ بالتّنمية المجتمعيّة، فالإطار المؤسّسي للعمل الإنسانيّ هو الإطار الفعّال. ففي واقعنا الحالي تنخفض فاعلية العمل الفردي، خاصةً مع اشتداد وتعاظم الكوارث الطبيعية والبشرية.

ومع التّزايد المُطّرد في أعداد المتضررين تظهر أهمية العمل المؤسسي القادر على النهوض بأعباء المهام الملقاة على عاتق المنظّمات الإغاثيّة والإنسانيّة، فالعمل الإنسانيّ ليسَ وليد اليوم ولا لحظة محدّدة ولا استجابةً لحدث ما. وبالعودة إلى نقطة التّحوّل في تاريخِ منظمة “الأمم المتحدة” نستذكرُ ما حصلَ في العراق يوم 19 آب عام 2003، حيث كانَ المئات من عمال الإغاثة داخل مكاتب الأمم المتحدة الكائنة في فندق (القناة) ومن بينهم (ديفيد نابارو) الذي كان يعمل في ذلك الوقت لصالح منظمة الصّحة العالميّة، فيقول نابارو: (كنتُ مع زملائِي ضمنَ تدريبٍ لوضعِ أسسِ مستقبل الخدمة الصّحيّة في العراق، وكان الموضوع في مراحله الأولى ولكن كنّا متحمّسين جدّاً”K ويردف: كان لدينا اجتماع مع (رئيس بعثة الأمم المتحدة) سيرجيو فييرا دي ميللو، وكنّا ننتظر في الطّابق السّفلي للقائه، وفجأة انقلبَ كلّ شيء رأساً على عقب، سمعنا ضوضاء غير عادية وشعرنا باهتزاز ثم انهارَ السّقف الذي كان فوقنا وانطفأت الأنوار. ثم خيّم الصّمت على المكان). (لن تعود الأمور لسابق عهدها)، وقُتِلَ في ذلك التّفجير اثنان وعشرون شخصاً معظمهم من عمال الإغاثة الذين ذهبوا إلى بغداد للمساعدة في إعادة إعمار العراق.

يتمّ كلّ عام إحياء ذكرى أولئك الذين لقوا حتفهم في بغداد في تكريمٍ مؤثّر، حيث اعتُبر يوم 19 آب يوماً عالمياً للعمل الإنساني وتمّ الاحتفال بهِ للمرة الأولى عام 2009، وذلكَ بعدَ الهجومِ الانتحاريّ على مجمّع الأمم المتحدة هناك.

بالتّزامنِ مع كلّ الكوارث التي تحصل، لن ننسى سنوات الصّراخ السّوريّة والوَيلات التي أُحدقت بالشّعب، فذكرى الفاجعة ليسَت طيبة إطلاقاً، للأسف كانَت تداعياتها لا تُعدُّ ولا تُحصى من تهجير وقتل، فأصبحَ ملايين النّاس ما بينَ مشرّد ولاجئ في الدّاخل والخارج، ومعاناتهم باتَت واضحةً للعلن، فهم يحتاجون كل أنواع الدّعم النفسيّ والماديّ، والاجتماعيّ، والإنسانيّ، والحياة شبه الطّبيعيّة، حيث يوجد أكثر من 15 مليون سوريّ بحاجةِ مساعداتٍ إنسانيّة تشملُ: التّعليم والمواد الغذائيّة والدّواء والمأوى والمياه الصّالحة للشّرب، إضافةً إلى الحماية التي تُعتبرُ من أهمّ المتطلّبات وخاصّة للأطفالِ والنّساء الذي يتعرضون لكل أنواع التّعذيب والاتجار بغرض الزواج والاغتصاب وبيع الأعضاء. سورية أصبحَت أرض نزاعٍ لأطرف إقليميّة، ما جعلَ الوضع مأساوياً، على المجتمع السّوريّ بأكملهِ، وخاصّةً (النّساء والأطفال وكبار السّن) وهؤلاء هم دائماً الأكثر تضرّراً، ذلك أنّ النّساء في مخيمات اللجوء يُجبرن على تقديم خدمات جنسيّة مقابل الحصول على مساعدات الأمم المتحدة.​ يقولُ أحدُ التّقارير المترجمة: (إنّ موظفي الإغاثة يضايقون النّساء والبنات جنسياً أثناء محاولتهن الوصول إلى المساعدات الإنسانية في هذا البلد الذي مزّقته الحرب، حتى إنّ بعضهنّ توقفن عن طلب المساعدة، والبعض الآخر أُجبر على الزواج من موظفين محليين تابعين للأمم المتحدة وبعض المنظمات الخيرية الدولية الأخرى للحصول على خدمات جنسية مقابل تلقي وجبات الطعام. ويضيف: (في العديد من المناطق التي تحكمها مجموعات مسلحة، تضطر المنظمات الإنسانية إلى التّفاوض معها من أجل الوصول إلى المحتاجين، وهو أمر تفسّره بعض الحكومات على أنّها دعم “غير مباشر” لهذه الجماعات المسلحة، ما يؤدي إلى تعرّض العديد من العاملين في المجال الإنساني للاضطهاد والمساءلة، ووضع العديد من القيود على التحويلات المالية للجمعيات إلى مناطق الأزمات وتجميد الأصول”.

وكما هو الوضع في أيّ بلدٍ آخر، تستهدف الحرب الأشخاص الأكثر ضعفاً، ويدفعون ثمن النّزاعات التي لا بدّ لها أن تنتهِي، فالأزمة تركَت بصمتها المأساويّة داخل البلاد وفي الدّول المجاورة لها. وبين معاناة الفقر والنّزوح واللجوء، يثبتُ السّوريّون عزماً وإصراراً على الحياة، وتواصل المنظّمات الإنسانيّة تقديم الإغاثة والمساعدات رغم التّحديات التي تفاقمها الأوضاع الأمنية. والسؤال هنا، لماذا الأوضاع متردية بهذا الشّكل في مخيمات اللاجئين، وما الذي يمكن فعله لحماية المدنيّين هناك؟ لا يوجد أسوأ من أن يحيا المرء في مخيّم، ومن أن يتمّ تهجيره من دياره، ومهما كانت المساعدات المقدّمة للأشخاص، لا تغني عن العودة إلى المنزل والعمل والمدرسة، وهناك منظّمات ساهمَت في ذلك من خلال الطّرود الغذائيّة التي يقدّمها برنامج الأغذية العالمي “WFP”، أو برامج التّعليم التي تقدّمها منظمة الأمم المتحدة للطفولة “UNICEF” ولكن سورية بحاجة إلى حلّ سياسي، بحاجة إلى إنهاء الحرب، وأن يعودَ النّاس إلى بيوتهم، ويعود السّلام والأمان، فالعمل الإنسانيّ ليسَ حلّاً مستداماً، بل هو عمل مساعد فقط لإبقاء النّاس على قيد الحياة في مواجهة الصّعاب، ولكن لا يوجد حلّ لإنهاء النّزاع عن طريق العمل الإنسانيّ، وعلينا وضع حدّ لمعاناة السّوريّين بعد صراع بلغ عقداً من الزّمن. وعلى الرّغم من الانخفاض النّسبي لأعمال العنف في سورية، إلّا أنّ الوضع الإنسانيّ تدهور بشكل سريع وخطير، فأوضاع السّوريّين حالياً هي أسوأ ممّا كانت عليه بداية عام 2020، وعلى كافة الأصعدة تقريباً، من ارتفاع معدلات الفقر ونقص الغذاء إلى الحصول على المياه النّظيفة، وهناك أربع حقائق إنسانيّة تواجهُ العالم في صراعٍ واحد، فقد قدّرت الأمم المتحدة أنّ أكثر من 80% من سكّان سورية يعيشون تحت خط الفقر. ووفقاً لـ “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”، يحتاج 11.1 مليون مواطن إلى مساعدات إنسانيّة، بينما يقدّر “برنامج الغذاء العالمي” أنّ 12.4 مليون شخص -أو 70٪ من السّكان- يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وهي تزيد بنسبة 50٪ عن الأعوام السّابقة. لكن حتّى هذه الأرقام المقلقة لا تعكس الحجم الكامل للمشكلة، فبالإضافة إلى الوضع المحلّي المزري، هناك ما لا يقلّ عن ربع السّوريّين -5.6 مليون شخص- هم لاجئون في البلدان المجاورة، ووفقاً لتحديث “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” يمثّل اللاجئون حالياً ما يقرب من ثلث جميع السّوريين المحتاجين. وجمعاً يحتاج ما لا يقل عن 16.7 مليون سوريّ إلى مساعدة إنسانيّة في جميع أنحاء المنطقة، ومع ذلك تبقى هذه الاحتياجات والأنظمة التي تهدف إلى تلبيتها معقّدة ومجزّأة للغاية على الرّغم من السّهولة النّسبيّة في توفير المساعدات إلى السّوريّين في تركيا ولبنان والأردن(أكبر ثلاث دول مضيفة)، إلاّ أنّه لا يتمّ سوى تلبية جزء ضئيل جداً من احتياجاتهم فقط. وقد أدى اكتظاظ السّكان، ونقص التمويل، والحواجز التي تحول دون دخول سوق العمل الرّسمي إلى وضعٍ يائسٍ لكثير من اللاجئين، حيث يمثّل التّمويل تحدياً كبيراً. فوفقاً لتحديث التمويل الإقليمي لـ “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” تمّت تلبية احتياجات 7% فقط من اللاجئين السّوريين في تركيا بشكل كاف من خلال مساعدة الأمم المتحدة في عام 2020(على الرغم من سدّ بعض هذه الفجوة بحوالي 6.5 مليار يورو دفعها “الاتحاد الأوروبي” لأنقرة منذ عام 2016 مقابل مساعدة أكبر في منع عبور اللاجئين غير المنظم إلى أوروبا). وكان أداء السّوريّين في لبنان والأردن أفضل قليلاً(تم تحقيق 17.5٪ و 15.4٪ من أهداف تمويل “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية” هناك، على التوالي)، بينما تلقّى المحتاجون داخل سوريا 55٪ فقط من التمويل المستهدف للأمم المتحدة.

السّوريّون اليوم يواجهونَ خياراً مستحيلًا كالاختيارِ بين تأمين الدّواء والغذاء ومستلزماتِ المدارس، أو أيّ طريقٍ آمن للخروجِ من هذه البلاد التّعيسة، فلم يعد أمامَهم الكثير من الخيارات في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة المتردّية، وصعوبة المعيشة، وكما هو الحال في داخل سورية، فإنّ حال منظمات المجتمع المدني السورية في بلدان اللجوء ليس أفضل بكثير، فثمّة جملة من العقبات التي تواجه اللاجئين من ناحية، والنّاشطين في العمل الإنساني من ناحية أخرى، حيث يستمر مسلسل التّضييق على المنظّمات الإنسانيّة، ولذلك على الجهات العاملة في هذا المجال إنهاء المعاناة الإنسانيّة الناتجة عن الكوارث الطبيعية أو أزمات الحروب، كرسالة استياء من وضع منظومة العمل الإنساني التي تحتوي على المنافسةِ غير المبرّرة والإقصاء لجهات دون أخرى، ممّا أدّى إلى تهاون وتأخّر العمل الإنسانيّ عن جوهر وجوده، وهو تلبية الاحتياجات الإنسانية أوّلًا قبل كلّ اعتبار.

العدد 1107 - 22/5/2024