بين التنوير والعلمانية!

طلال الإمام_ السويد:

يشير مصطلح التنوير إلى نشوء حركة ثقافية تاريخية قامت بالدفاع عن العقلانية كوسيلة لتأسيس نظام مدني للأخلاق والمعرفة، لذلك يمكن اعتبار عصر التنوير هو بداية ظهور الأفكار المتعلقة بتطبيق العلمانية أيضاً. كان رواد هذه الحركة يعتبرون مهمتهم قيادة بلدانهم ومجتمعاتهم والعالم إلى التطور، والتقدم والتحديث، وترك بعض التقاليد الدينية والثقافية القديمة والأفكار اللاعقلانية التي تحاول السيطرة مرة بالاستبداد الديني والمورث، وبالسلطة السياسية مرة أخرى، وثالثة بالتحالف بين السلطتين.

في أوربا مثلاً ظهر التنوير كحركة فكرية خلال مرحلة مهمة من تاريخها، الحديث يدور عن القرنين 18 و19، عندما دعا الفلاسفة والعلماء إلى إظهار قوة العقل وقدرته على فهم العالم وإدراك ناموسه وقوانين حركته معتمدين على التجربة العلمية والنتائج المادية الملموسة بدلاً من الاعتماد على الخرافة والخيال.

غير أن حركة التنوير لم تقتصر على أوربا، إذ انتقلت إرهاصاتها إلى بلداننا العربية مصر، سورية، لبنان العراق وسواها، وظهر من يمكن أن نسميهم رواد الحركة التنويرية العرب، الذين تركوا بصمات خالدة في تاريخ الوطن العربي، منهم من ارتحل، ومنهم من قدم حياته قرباناً ومنهم مازال يؤدي رسالته داعين لهم بطول العمر، أبرزهم: محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، ورشيد رضا، وسعد زغلول، وعز الدين القسام، وطه حسين، وحافظ إبراهيم، حسين مروة، نصر حامد أبو زيد، سيد القمني، فراس السواح، المستشار أحمد عبده ماهر د. عدنان العويد، عطية مسوح وغيرهم كثيرون.

يمكن القول إن مهمة الرواد التنويريين الأوائل في منطقتنا كانت ومازالت صعبة جدّاً ومعقّدة، فقد كانت دعواتهم موجهة ضد الاستعمار العثماني، الفرنسي والإنكليزي إلى جانب الدعوة لتنوير العقول وتخليصها من كل ما يعرقل مسيرة المجتمع نحو التحرر، والمساواة وتخليصه من سيطرة المؤسسة الدينية أو الأنظمة السياسية التي تقف حجر عثرة أمام التطور إلى الأمام، وهم الآن يجابهون المؤسستين الدينية والسلطة.

نعتقد أنه ثمة ترابط وثيق بين التنوير والعلمانية، وهما ساقان لجسم المجتمع للسير نحو الأمام، فمن المستحيل نجاح عملية التنوير في مجتمع تسيطر عليه المؤسسة الدينية وفتاويها وعادات قبلية وعشائرية متخلفة دون الدعوة للعلمانية والمجتمع المدني الذي يساوي بين مواطنيه بغض النظر عن انتمائهم الديني /الطائفي أو الإثني في جميع الحقوق السياسية، الاجتماعية والاقتصادية.

بالمقابل نلاحظ أحياناً أن بعض من يدعو إلى التنوير يضع تعارضاً بين التنوير والعلمانية جهلا او معرفة، إذ ينطلق من تعريفات لا علاقة لها بالعلمانية، من شاكلة أن العلمانية تعني الإباحية، أو الإلحاد. علماً أن فصل الدين عن الدولة أو ما يسمى بالعلمانية لا يعني إلغاء الدين أو محاربته، فالأديان موجودة في جميع الدول العلمانية ويمارس المؤمنون بها طقوسها داخل دور العبادة بحرية وبحماية القانون. فمن حق الإنسان فى ظل العلمانية أن يعبد ربه كيفما يشاء، ولكن ليس من حقه إجبار باقي المجتمع على مفاهيمه الدينية. وإن أوجزنا مبادئ العلمانية فهي تشمل المبادئ الثلاثة التالية: العدل بين فئات المجتمع على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، واحترام حق الأقليات الدينية في العبادة (أو بمعنى آخر عدم استضعافهم لأنهم أقلية، ليس ثمة جزية في تلك المجتمعات)، ومعاملة جميع المواطنين بسواسية بغض النظر عن إيمانهم أو عدمه، لأن الذي يحاسب في نهاية المطاف هو الخالق.

في هذا السياق نرى أحياناً أن بعض التنويريين يقفزون أو يتجاهلون العلمانية بمفهومها الصحيح عبر الدعوة لمبادئ عامة وتعابير صحيحة لكنها لا تحل المشكلة وتبقي المجتمع والعقل أسير المؤسسة الدينية وسطوتها الاجتماعية والسياسية. الدول والمجتمعات لا تتقدم نحو الأمام إن بقيت ضمن إطار دعوات وكلمات براقة من شاكلة: العدالة (أية عدالة؟)، التسامح (بين من ومن؟) أو الوسطية؟

اللافت لدى مراجعتي لمفهوم الوسطية في (غوغل) أن هذا المفهوم ترفعه أساساً أو تختبئ خلفه الأحزاب والتيارات الدينية، مثل الإخوان المسلمين وبعض المؤسسات الدينية عبر فتاويها ومنشوراتها. المؤسف أن هناك بعض من يدّعي التنوير ينساق وراء ذلك المفهوم المضلل عن حسن نيّة أو عن سوء نية.

نعم، قد تكون الوسطية مطلوبة ومفيدة على المستوى الفردي أو العائلي أو بعض العلاقات الاجتماعية، لكن عندما يتعلق الأمر بالدولة وقوانينها وسياستها الداخلية والخارجية فالأمر يختلف؛ هل هناك وسط بين الظلم والعدل؟ هل هناك وسط بين الاحتلال/الاستعمار والتحرر؟ هل هناك وسط بين وضع المرأة وحقوقها في المجتمعات الذكورية، ومعاملتها كإنسانة كاملة الحقوق كما الرجل في جميع المجالات: الميراث، الزواج، الطلاق، العمل، والتعليم وما إلى ذلك؟ هل هناك وسط بين مناهج التعليم التي تقوم على تكريس التخلف والخرافات، وتلك التي تتطلب إعمال العقل والإنصات له؟ هل هناك وسط بين الاستغلال والتوزيع العادل للثروة المحلية والعالمية؟ الدول والمجتمعات لاتقاد ولا تتقدم فقط بدعوات الدروشة من شاكلة (حبّوا بعضكم، كلّنا إخوة، سامحوا بعضكم، الإنسانية أو خير الأمور أوسطها دون تحديد أية أمور تتطلب الوسطية وأية أمور تحتاج لمواجهتها ولتجاوزها بجرأة إن كانت تعيق تطور الفرد والمجتمع؟

نعم، مهمة التنوير صعبة ووعرة في مجتمعات تسيطر عليها خرافات عمرها آلاف السنين.. ونرى نتائجها الكارثية على بلداننا وشعوبنا. لكن المفرح أن هناك من يتابع، رغم إدراكه لتلك الصعوبات، نشر فكار التنوير والعلمانية، وهم يستحقون التحية ويحتاجون للدعم ونشر أفكارهم، وهذه هي إحدى مهام التنويريين.

تحية لكل من يساهم في هذه العملية ولو بكلمة.

العدد 1105 - 01/5/2024