الحفر في رمال ناعمة

حسين خليفة:

كلنا، أو معظمنا، مرَّ بتلك الفترة العصيبة، السنة الدراسية الأخيرة والفاصلة في عمر الطالب، البكالوريا، كلنا عشنا التوتّر والتعب الذي امتدَّ على مدار عام كامل. ومن خبرتنا والتقييمات التي يُجمع عليها الناس أنه من الصعب جداً، حتى يكاد يكون مستحيلاً، إحراز العلامات الكاملة في جميع المواد، مع الإشارة إلى وجود حالات استثنائية خارجة عن السرب، حالات تقترب من العبقرية، يستطيع الطالب العبقري فيها أن يكون مُلمّاً إلماماً كاملاً بلا نقصان في اللغة العربية كما في الرياضيات والفيزياء وغيرها ليمنع تسرب علامة واحدة من بين يديه.

في دورات سابقة بلغ عدد الذين أحرزوا العلامة الكاملة في نتائج البكالوريا عشرات الطلاب، وهي نتيجة تكاد تكون معجزة، ويكتنف الشك هذه الحالات لكثرتها، إذ كان من ينال العلامة الكاملة واحداً أو اثنين على أبعد تقدير، فيما بلغ عدد الذين أحرزوا نسب فوق 95 % الآلاف، وهم الذين يحقُّ لهم التسجيل في الكليات الطبية وبعض الهندسات.

السؤال الذي نطرحه وطرحه الكثيرون قبلنا من (كثيري الغلبة) الذين لا يقبلون البديهيات التي يسوقها الإعلام عن تطور التعليم وجودته، ما دامت مدارسنا وجامعاتنا فيها كل هؤلاء العباقرة فكم عدد العلماء والمخترعين والباحثين الذين يضيفون جديداً إلى العلوم والتطبيقات والاختراعات؟!

هل استطعنا تصنيع لعبة أطفال يمكن الإشارة إليها سوى الدببة القماشية المحشوة بسقط المتاع من الألبسة، أو الألعاب المصنوعة من البلاستيك المُعاد تصنيعه؟!

هل سجّل مخترع واحد من بلادنا وعبر جامعاتنا ومؤسساتنا اختراعاً واحداً يُشار إليه؟! مع العلم إن السوريين يبدعون ويخترعون، ويتفوقون على أقرانهم في الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية حين تُسنح لهم فرص الدراسة فيها والعمل معها.

إذاً أين الخلل يا سيدي؟

واضحٌ تماماً أنه في النظام التعليمي من مناهج وطرائق تدريس وإدارة العملية التعليمية، وفي بنية النظام التعليمي بما هو جزء لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي القائم في البلد.

فانتشار الفساد والرشوة والمحسوبيات جعل الثقة بالمنتج التعليمي في أدنى مستوياته، وما انكشف، أو أُميط اللثام عنه، من حالات الفساد وتزوير النتائج، وشهادات الماجستير والدكتوراه التي تُنجز من قبل آخرين بالأجرة ليكتب عليها المحروس/ة اسمه/ها، ثم يصبح مدرساً في الجامعة ودكتوراً وأستاذاً مساعداً بحكم المال أو واسطة البابا، كل هذه القصص التي انكشفت ووصلت إلى الإعلام  ليست سوى قمّة جبل الفساد والخراب الذي حلّ بالمؤسسة التعليمية في ظلّ غياب الشفافية والحريات الإعلامية، والذي يعرفه القاصي والداني من المعنيين بالشأن التعليمي، القمّة التي يقبع تحتها هرم هائل من الخراب.

تبقى حفلة التكاذب مستمرة بين الأستاذ والطالب، فيقدّم له الأستاذ كل وسائل الوصول إلى النجاح والتفوّق بطرق غير مشروعة مقابل مبلغ مجزٍ طبعاً، وبعد حين يصبح هذا الطالب أستاذاً دون أن يبذل القليل من الجهد والتعب، أو دون أن يملك أدنى كفاءة علمية، وتستمر اللعبة مع طلاب جدد، وهكذا دواليك.

ثم يأتي السؤال الآخر: هل تعكس النتائج فعلاً مستوى ذكاء الطالب ومقدراته العقلية الحقيقية؟ أم أنها تعطي صورة عن قدرته على الحفظ وتكرار ما حفظه؟!

إنها قولاً واحداً تعبّر عن الحالة الثانية، قدرة الطالب على البصم والاستظهار كما لو أنه آلة تسجيل، دون حوار أو نقاش أو مساءلة. أي أن هذه النتائج ونتائج الجامعات أيضاً لا تسمح بظهور حالات إبداعية أو مواهب، أو التدريب على الحوار العقلاني والتجاوز إلاّ في حالات ضيّقة جداً يكون فيها الدكتور خارج منظومة الفساد، ويملك مقدرات علمية رفيعة، وهؤلاء أصبحوا من النوادر، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من طردته آلة الفساد الجهنمية إلى خارج سلك التعليم أو طفش إلى بلاد تقدّر علمه وتجربته، ولا تضعه تحت إمرة أُميين أخذوا شهاداتهم بالمال أو بالسلطة.

إنّ أي ادعاء أو محاولة لإصلاح التعليم بمستوياته كافة لا يكون بتغيير المناهج كل عام أو عامين على أهمية تطوير المناهج وتغييرها باستمرار لتواكب مستجدّات العصر الذي يتميّز بالتطور السريع والساحق الذي لا ينتظر أحداً، ولا بالضغط على المدرسين الأكفاء وتحميلهم ما لا يُحتمل في ظلِّ الرواتب الصفرية التي يتقاضونها فلا يبقى من حلٍّ أمامهم سوى التدريس في مدارس خاصة أو الدروس الخصوصية في المنازل ليستطيعوا الاستمرار في الحياة هم وعائلاتهم. أو الدخول في حلقات الفساد والخراب العلمي والتعليمي وهو أخطر أنواع الخراب بتسريب الأسئلة وإنجاح من يدفع…الخ.

إن إصلاح التعليم هو جزء من إصلاح شامل يبدأ بالإصلاح السياسي بإنهاء حالة الحرب وبناء سورية علمانية ديمقراطية دولة مؤسسات وقانون عبر حوار وطني شامل وجاد وصريح يضم كلّ القوى السياسية والمجتمع الأهلي، ثم يليه بالضرورة إصلاح اقتصادي وتعليمي وثقافي.

العدد 1105 - 01/5/2024