تجارة الموت. . حيث لا عاصم لنا

حسين خليفة:

تقوم الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بتحديد تعاريف وحالات الاتجار بالبشر، وتحديثها دورياً حسب ما يستجد من أبواب وأنواع لهذه التجارة القذرة بكل أشكالها.

لكن الدراسات والتحقيقات والمحاضرات التي تقدم في هذا الصدد على أهميتها وشموليتها ونواياها الحسنة تغفل عن نوع غير مباشر من الاتجار بالبشر سنذكره بعد استعراض أهم أنواع الاتجار التي تحددها هذه المنظمات وقوانين الدول التي فيها قوانين، ويسعى الجميع إلى محاربتها علناً على الأقل، والحد منها، ومحاكمة مرتكبيها، لكن هذه الجرائم تزدادا حدة واتساعاً.

الاتجار بالأشخاص يعني فيما يعنيه تجنيد أشخاص، أو نقلهم، أو إيوائهم، أو استقبالهم، باستعمال القوة أو القسر أو الاحتيال أو أشكال الخداع الأخرى، لغرض الاستغلال.

الممارسات المرتبطة بالاتجار محظورة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. فقانون حقوق الإنسان يمنع مثلاً عبودية الدَين والرق والاسترقاق واستغلال الأطفال جنسياً والزواج القسري والدعارة القسرية، وهي من الممارسات التي تشكّل انتهاكات لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من اعتماد إطار قانوني دولي صارم، يستمرّ الاتجار بالملايين من الفتيات والفتيان والنساء والرجال سنوياً.

أهم أشكال الاتجار بالبشر هي:

  • الاتجار لأغراض العمل القسري حيث يتم تهريب أناس من الدول الفقيرة والمحكومة بالفوضى والاستبداد والفقر والاتجار بهم بواسطة الخداع حيناً والعنف أحياناً لتحويلهم إلى عبيد يعملون في أعمال شاقة ومنافية لحقوق الإنسان وفي أعمال قذرة منافية للقانون ومنها أعمال زراعية أو تعدين أو صيد الأسماك أو في أعمال البناء، إلى جانب عبودية منزلية وغيرها
  • الاتجار من اجل استخدامهم في الأنشطة الإجرامية رغماً عنهم مثل السرقة وزراعة المخدرات والاتجار بها أو بيع سلع مزيفة أو التسول مع منحهم حصصا تافهة من مردود الأعمال الخطيرة هذه بما يكفي لبقائهم على قيد الحياة واستمرار تشغيلهم.
  • الاتجار بالبشر من أجل الاستغلال الجنسي حيث يتم خداع الأطفال والنساء بوعود تهريبهم إلى بلاد تعطيهم حياة أفضل، فيجدون أنفسهم مرغمين على الدخول في شبكات الدعارة والتجارة الجنسية.
  • الاتجار بالبشر لاستخدامهم في المتاجرة بالأعضاء بعد استخدام الطرق نفسها بوعود تهريبهم الى بلاد تعرف حقوق الإنسان ومكتفية مادياً ليعيشوا كبشر، ثم يقعون ضحية عصابات الاتجار بالأعضاء مثل الكلى وقرنية العين وغيرها من الأعضاء البشرية التي يزيد الطلب عليها مع انتشار الأمراض.

كل هذه الأعمال وغيرها تزدهر في بيئات الفقر والحرمان والتخلف لكنها في فترات الحروب الأهلية تتحول إلى ما يشبه الحالات العامة المعروفة لدى الجميع بمراكزها و(أبطالها) وعمالها، مثل الأعمال الممنوعة الأخرى وخصوصاً تجارة المخدرات التي تحضر كثيراً مع الاتجار بالأشخاص كتجارة موازية ومتممة لها.

في الحرب السورية التي طوت عشر سنوات من اعمارنا ولم تنته بعد رغم انحسارها أصبح لدينا ما يشبه (كارتلات) بتجارة وتوزيع البشر نتيجة الاعداد الهائلة ممن نزحوا وهجروا ولم يعد لديهم أي أمل بعد أن فقدوا منازلهم وأملاكهم، فضلاً عمّن فقد فرداً أو أكثر من أسرته قتلاً أو اعتقالاً أو اختفاء.

هنا ـ في ظروف اشتداد الحروب الأهلية ـ يتحول الإنسان إلى حرب اليائس، وحرب اليائس مخيفة ومرعبة يستخدم فيها كل ما لا يخطر على البال من أسلحة متوفرة لديه، فهو صراع بقاء تنتفي فيه كل ما تلقاه الانسان من قيم وأخلاق وإيديولوجيات، وتصبح غريزة البقاء التي تقتضي إلغاء الآخر ومحوه بلا رحمة هي المسيطرة على الفرد المهزوم المنكسر داخلياً والمنتشي خارجياً بوهم الانتصار والدخول في عالم الثراء على جثث الآخرين وأحلامهم.

هنا يصبح ابن/ة جارك أو حتى قريبك الذي يمد يده إليك طالباً النجدة والخلاص مادة للافتراس، ومطية لتحقيق الثروة والعيش في وهم الرفاهية والثراء.

فكم من حالة قام تجار الحرب بالنصب على أبناء قراهم وأقربائهم وأخذوا منهم أولادهم على أمل إيصالهم إلى بلاد اللجوء في أوربا مقابل تحويشة العمر، لكنهم اختفوا بعد أن سلّمهم المؤتمن عليهم إلى عصابات الاتجار بالبشر على اختلافها!؟

فضلاً عن الآلاف ممن وقعوا في براثن هؤلاء عبر وسطاء وسماسرة ما زالوا يعيثون خراباً ويجمعون ثرواتهم من دموع الأمهات وصراخ الأطفال على فقدان الابن/ة أو الأب.

عود على بدء، هناك ما هو أخطر من الاتجار بالبشر والكبتاغون وغيرها، إنه الاتجار بشعب كامل، ببيعه شعارات وأوهاماً، ليبقى هذا الشعب يعيش على أمل نصر قادم على عدو يتم تصنيعه إن لم يكن موجوداً فعلا على أرض الواقع، ثم جعل الحرب مع هذا العدو شماعة لنهب الناس وإفقارهم وإسكاتهم وتهجيرهم ونفيهم بتهم جاهزة هي الوقوف مع هذا العدو لكل من يتجرأ ويقول كلمة حق ولو تلميحاً.

وهنا تصبح حالة الحرب مزمنة ومستمرة ما استمرت الحالة التي صنعتها أو أفرزتها لأنها تعتمد عليها في ديمومتها وتضخمها حتى تبتلع المجتمع والبلد وترميه عظمة بالية.

إنها أخطر بما لا يقاس من الاتجار بالأشخاص والممنوعات على خطرها وسوئها، وهي تفرز جميع أنواع التجارة القذرة وتنميها دون حسيب أو رقيب، ويصبح النهب والفساد ثقافة مجتمعية تبرر لـ(الشاطر) كل أفعاله.

يبقى الأمل أن تخرج بلادنا من هذه المحنة الوطنية الكبرى، وأن تلملم جراحها وتبني بلداً حراً علمانياً ديمقراطياً من جديد، لتصبح كل هذه الآلام والحكايات ذكريات مرة ودروساً نتعلم منها لقيامة البلد.

 

العدد 1105 - 01/5/2024