إنهم أبناء الحياة

حسين خليفة:

إنه طفلٌ ما زال يحبو، لكنه يُصرّ على أخذ الموبايل من يدي أبيه أو أمه ليبدأ التعامل باللمس على الشاشة قبل أن يتعلّم النطق أو معاني الكلمات، وخلال زمن قصير يُتقن طرق تشغيل ما يريده في الجهاز، والوصول إلى المواقع التي تستهويه من يوتيوب وغيره. بالمقابل يتهيّب الكثيرون من الكبار التعامل مع موبايلات اللمس، بعد أن يكونوا قد تعلموا، بصعوبة، التعامل مع موبايل الأزرار من الجيل الأول وألِفوه، واحتاج تقبُّل البعض منهم لاقتناء الهواتف الذكية والتعامل معها إلى تحفيز وتشجيع من حولهم بأن الأمر يسير ولا يحتاج إلى كثير عناء للتعامل مع هذه الأجهزة، بينما بقي البعض القليل منهم مُصرّاً على البقاء مع جهازه التراثي مُستغنياً عن الميّزات التي تُتيحها الهواتف الذكية من تشغيل وسائل تواصل إلى التقاط الصور وتعديلها، وغير ذلك من الميّزات التي تزداد كل يوم، بل كل ساعة.

يتميّز الأطفال بذكاء هائل يُمكِّنهم من استيعاب سريع للّغات والأجهزة والتعامل معها، لكن حتى ينمو هذا الذكاء بشكل متوازن مع نمو الطفل واتساع مداركه ينبغي أن لا ينحصر في اتجاه واحد، وهو الانغماس في الموبايل والتاب واللابتوب وغيرها من الأجهزة الذكية التي تُنمّي لديه حالة العشق والتوحّد مع هذه التكنولوجيا، بينما تُجهض بالمقابل نمو جوانب أخرى من الذكاء الاجتماعي والعاطفي له، ويشبِّه باحثون هذا الأمر بشخص يمارس رياضة مستمرة وقاسية لطرف واحد من أطرافه (بسبب مهنة معينة مثلاً) ممّا يؤدي إلى تضخّمٍ كبير لعضلات ذلك الطرف مقابل ثبات أو ضمور الأطراف الأخرى، ولكم أن تتخيّلوا حجم التشوّه الجسدي والجمالي لذلك الشخص.

هذا بالضبط ما يمكن أن يحدث لعقل الطفل وملكاته إذا تركناه أسير الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية الحديثة، فيعاني من العزلة والتوحّد والغرق في الخيال حتى يُنشئ حياة موازية للحياة الواقعية.

وهذا يوجب على الأهل (الأبوين تحديداً) مراقبة علاقة الطفل مع هذه الأجهزة وتقنينها بطرق وديّة ومُقنعة، مع تقديم البدائل التي تملأ الفراغ الذي يخلقه إبعاد الطفل عن معشوقه، مثل النزهات، الزيارات، الرياضة، القراءة… الخ، وبطريقة تُحبِّب الطفل بها، وتجذبه إليها، ولا تخلق عنده نفوراً أو ردّة فعل تجاهها.

يُفاجأ البعض بسرعة تلقّف الطفل لأبجديات التعامل مع التكنولوجيا الحديثة، وذلك بمقارنته مع ما يُعانيه كثيرون من الكبار في السن في التعامل معها وفكِّ أسرارها واكتشاف إمكاناتها غير المحدودة، لكن هذا الأمر، في الحقيقة، أكثر من طبيعي، ويكفي أن نتذكّر في هذا الصدد سهولة تلقي الجيل الذي هو الآن على أعتاب الشيخوخة في طفولته من حكايات وألعاب ونصوص دينية أو حتى أماكن إخفاء بعض الأشياء الهامة في البيت الريفي مثلاً، بل إنهم_ الأطفال_ كانوا يُذكِّرون آباءهم بمكان إخفائها إن نسوها هم وبدؤوا يُخمّنون ويخرجون عن أطوارهم.

كثيراً ما يلفت نظر بعض الآباء والأمهات قدرة الطفل العجيبة على (سرقة) كلمة السر التي يستخدمونها للحفاظ على أمان استخدام الجهاز، فهم بصعوبة يحفظون الكلمة التي وضعوها، ويضطّرون أحياناً إلى (فرمتة) الجهاز بسبب نسيان كلمة المرور، وقد وضعت الشركات المُصمّمة لتطبيقات التواصل من فيسبوك وتويتر وغوغل وغيرها طرقاً مُيسّرة لاستعادة كلمة السرّ المنسية مراعاة لحالات كهذه.

أما الطفل فتراه من متابعة عينيه لحركات أصابع أحد أبويه على الكيبورد يكتشف كلمة السرّ ويحتفظ بها في ذاكرته ليفتح بها الجهاز حالما يظفر به لدى سهو صاحبه أو نومه، مُخترقاً، بذلك، الحظر المفروض عليه في حال وجودها، وقد شهد أغلبنا حالات مُذهلة من قدرة الطفل على التقاط كلمة المرور رغم كل إجراءات الأمان والحيطة المُتّخذة من قبل الكبار.

إنه الذكاء المُتأتّي من أمرين: توقّد الذهن في طفولته المبكرة، واهتمامه غير المحدود بالوصول إلى الجهاز واكتشاف أسراره.

هي في النهاية سنّة الحياة والتطور، فقد كُنّا متجاوزين لأجيال من سبقونا، لا لتفوّق فطري أو فيزيولوجي، بل لأنه أُتيح لنا ما لم يُتَح لهم من وسائل التعلّم والترفيه، ثم جاء أولادنا فتفوّقوا علينا و(ثأروا) لأجدادهم وجدّاتهم، وجعلونا نشكّ في قدراتنا العقلية.

وهكذا، تتوالى الأجيال وتتكرّر الحكاية.

العدد 1107 - 22/5/2024