(الناس لبعضها) بين الإحسان والمباهاة

حسين خليفة:

كل وضع اجتماعي سياسي، أو كل تشكيلة اقتصادية اجتماعية، كل سلطة، تفرز ظواهر تشبهها أو تُعبّر عنها بمعنى آخر. حتى في أدق التفاصيل وأتفهها، تجد هذه البديهية حاضرة بقوة لمن يريد رؤية الجوهر أو التأمّل في الأعماق.

يكفي أن تدخل مرةً واحدة الى أي حفلة في مطعم، أو ملهى ليلي، أو حتى عرس، لتجد السيناريو ذاته وإن بأشكال مختلفة، ستجد الانحطاط ذاته أو الرقي ذاته حسب وضع المجتمع الذي يلحق وضع الطبقة المسيطرة، التي تُعبّر عنها السلطة السياسية، أو تُشكّل أداتها لقمع الطبقات الأخرى.

الإعلام والفن والثقافة كإحدى تجليّات البنية الفوقية تُعبّر أيضاً عن هذه الحقيقة، فحيث يكون المجتمع حراً ومستقراً وآمناً ومُحقِّقاً لأدنى متطلبات العدالة والكرامة الإنسانية، تجد الفنون والإعلام والثقافة تقدم أرقى ما ينتجه العقل والمخيلة. وحيث يسود القمع والإلغاء والتكفير والتخوين ويتجذّر الفساد، ويمتد أفقياً وشاقولياً، ويُمارَس النهب المنظم والعلني لثروات البلد، تجد الانحطاط يحفر عميقاً في بنيان الثقافة والفن والإعلام كما في جميع مناحي الحياة حتى الرياضة.

في موضوع فقرات (الناس لبعضها) الذي يقدمه على اليوتيوب (الإعلامي) شادي حلوة سأروي حكاية معروفة تكررت في كل زمان ومكان، وربما تَمَلْونَ منها بسبب تكرارها مراراً، وأعتذر على الإطالة:

امرأة جميلة في مقتبل العمر، تحمل كل مقومات الأنوثة والإغراء والإغواء، لكنها لا تملك أي مؤهلات سوى شكلها وجمالها، سُدَّت أبواب العيش في وجهها، فاضطرت إلى امتهان أقدم مهنة في التاريخ، وبسبب تفوقها الكبير على أقرانها نجحت في المهنة أيّما نجاح، وعلى قول المثل المعروف: قال لها الكريم: خُذ.

لكن المال الذي يأتي بسهولة يُصرف بسهولة، خصوصاً مع ثقتها بأن عملها يستمر ويتطور ناسية إنّ الصبا والجمال والأنوثة_ وهي عدّة شغلهاـ أشياء لا تدوم.

لم تكد السيدة تتعدّى الأربعين بسنوات حتى بدأ الزبائن ينفضّون عنها، ففي السوق التي تخضع لقانون العرض والطلب نماذج جديدة وطازجة دائماً، ومع تراجع (الشغل) والمردود طبعاً بدأت حياتها بالتدهور حتى ما عاد دخلها يكفيها لتسديد فواتير الهاتف والإنترنت والكهرباء والماء وأجرة المنزل في الحي الفاخر الذي كانت تُصر على الإقامة فيه بالأجرة لضرورات المهنة، حيث نوعية الزبائن أولاً، وإمكانية تغيير العنوان كل فترة ثانياً.

المهم، بلا طول سيرة، تضطر السيدة إلى البحث عن مهنة أخرى، تعبت وهي تبحث بلا جدوى، وخلال بحثها الدؤوب عن عمل تقتات منه صادفت (زميلة) قديمة في موقف السرفيس، وبعد السلام والكلام والحديث عن الماضي المجيد وتدهور الأحوال والأخلاق، نصحتها الزميلة بان تستغل خبرتها الطويلة في (الكار) بفتح وكالة للمهنة على أن تكون هي الوسيط الذي يأخذ الكومسيون من البائع والشاري دون أن يعرق جبينها، مجازاً طبعاً.

وكان أن استضافت في بيتها عدداً من الزميلات الصغيرات الفرفورات، وبدأ الزبائن الذين انفضّوا عنها يعودون إليها زرافات ووحداناً، لكن هذه المرة لتروي لهم النكات البذيئة والطرائف وتشرب معهم كأساً من اللبن المُعتّق، قبل أن يدلف كلٌّ منهم إلى إحدى غرف المنزل مع زميلة من الزميلات.

عادت تجارتها إلى الانتعاش، وعاد دخلها إلى الفوران مع ترهّل جسدها وامتداد كرشها وانفلات لسانها.

طلعاً لا علاقة لما يفعله (الإعلامي) شادي حلوة على اليوتيوب بسيرة هذه السيدة المحترمة.

وقد كان أول وسام تلقاه شادي جاءه من مواطن حلبي رماه به (الوسام) وهو ينقل أخبار التجمعات الشعبية التي كانت تحدث لبضعة أشخاص كل ظهر جمعة في حلب بكل شفافية ومصداقية، ويؤدي رسالته الإعلامية بأمانة ومهنية لا تضاهى.

وحين وضعت الحرب أوزارها، وانتصرنا كما هو واضح، لم يجد شادي عملاً يناسب مؤهلاته ومقدراته، فكان أن وجد ضالته لدى ثري من أثرياء الحرب، ففرز له سيارة ومرافقين، وتفتّقت عبقريته الإعلامية عن فكرة جهنمية وهي أن يقوم باصطياد الفقراء والعجزة وأبناء السبيل في مدن وقرى عدّة بدأت بحلب وامتدت إلى مدن أخرى، يقوم فيها بإعطاء مبالغ مالية لهم بعد سؤالهم عن جواب واحد زائد واحد.

الحقيقة أننا اكتشفنا جانباً آخر من شخصية شادي في هذه (اليوتيوبات) إضافة إلى شخصية الإعلامي الفذ والناجح والمثقف، وهي شخصية الكوميديان التي كانت تنزوي خلال تغطيته للحرب لضرورات الموقف.

أما السؤال عما إذا كانت المبالغ التي يدفعها شادي أمام الكاميرات حلاً لمشكلة الفقر، فلا بدّ من الإشارة إلى أن هناك آلاف المحسنين والمحسنات يوزعون ما تيسّر من مال ومساعدات عينية على المحتاجين دون تصوير ولا إهانة للمحتاجين بأضعاف ما يدفعه شادي من أموال منهوبة أساساً من الناس خلال نمو وتغوّل أثرياء الحرب الممولين لحملة شادي الخيرية، لكن مشكلة الفقر بقيت وستبقى ما لم يوضع حد لنهب الأثرياء، ويصبح الفقراء أصحاب قرار فعلي.

ولا أطالب هنا بدكتاتورية البروليتاريا والعياذ بالله! فهي أقرب إلى حلم مستحيل في ظروفنا هذه، لكن أحلم ببلاد فيها عدالة وديمقراطية ومساءلة وسيادة قانون وتكافؤ فرص.. حينئذٍ سيجد الفقير فرصته في تحسين أوضاعه والعيش بكرامة على الأقل، لن يحتاج إلى صدقات المحسنين، ولا إلى حركات شادي وخفّة دمه أمام الكاميرا.

العدد 1107 - 22/5/2024