عيد العمّال.. أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً!

نور سليمان:

الأوّل من أيّار يوم العمّال العالمي، ويُسمّى أيضاً في بعض الدول يوم العمل، يحتفل به العالم متضامناً فيه مع الطبقة العاملة، فقبل هذا التاريخ كانت حياة العمال عبارة عن مأساة يومية مع بداية الثورة الصناعية في بريطانيا، فقد تراوحت ساعات العمل بين 10-16 ساعة، إضافة إلى استخدام الأطفال دون أيّة اعتبارات للأمن الصحي مع انتشار الآفات والأوبئة آنذاك، ما أدى إلى ظهور حركات اجتماعية هدفها تنظيم يوم العمل ومنع التجاوزات والانتهاكات، وقد كان أول من طالب بذلك هو روبرت أوين، أحد مؤسّسي الاشتراكية الطوباوية، وقد صاغ شعار 8 ساعات عمل، 8 ساعات راحة، 8 ساعات ترفيه، ومُنحت النساء والأطفال في إنجلترا ميزة 10 ساعات يومياً عام 1847، أمّا في فرنسا فقد حصل العمال الفرنسيّون على 12 ساعة يومياً بعد ثورة شباط (فبراير) 1848.

تناولت رابطة العمال الدولية مطالب العمال بتحديد يوم العمل بـ 8 ساعات في عام 1866، مُعلنة أن الحدّ القانوني ليوم العمل هو شرط أولي، ودون توفره ستفشل جميع المحاولات لتحسين ظروف الطبقة العاملة وتحريرها. وفي عام 1889 أَعلن مؤتمر الأحزاب الاشتراكية العالمية الذي عُقد في باريس تأييده لمطالب حركة العمال في الولايات المتحدة الأمريكية التي نادت بتحديد وقت العمل بثماني ساعات فقط، واختار المؤتمر أول أيار (مايو) 1890م لتنظيم مظاهرات تأييد لهذا القرار. ومنذ ذلك التاريخ أصبح الأول من أيار إجازة باسم (عيد العمال) في كثير من دول العالم، وتقوم الحكومات ومنظمات العمل بتنظيم استعراضات وإلقاء خطب وأنماط احتفالية أخرى في دول العالم الثالث، فبحسب أحدثِ تقريرٍ صادرٍ عن منظّمة العمل الدّوليّة، تتصدّرُ القارّة الآسيويّة قائمة أكثر القارات في العالم التي تضمُّ عمّالاً يعملون أطول ساعات، والتي تُعرف بالعمل حتّى الموت.

في هذا اليوم نستذكر أهمية العمّال ودورهم الكبير، وعملهم المتواصل، وجهدهم الممزوج بالعطاء والبناء لإعمار البلد، وخاصة بعد الحرب التي عانت منها خلال السنوات العشر الماضية، فقد شكّل العمال عاملاً مهمّاً في الصمود والقوة، فتاريخ العمال السوريين الطويل يخبرنا بالعديد من المحطات الوطنية والطبقية، فقد شقّت النقابات والاتحادات العمالية طريقاً شاقاً من النضال حتى انتزعت حق الطبقة العاملة السورية بحرية للدفاع عن مصالح العمال وحقوقهم. وقد امتد تاريخ صعود الحركة النقابية والعمالية في سورية منذ بداية القرن العشرين حتى نهاية عام 1957، فسورية التي لطالما تغنّت بأهمية العمل والعمال وحقوق الكادحين باتَت حكومتها اليوم تبتعد عن تحقيقِ أدنى المقوّماتِ الأساسيّة للمعيشةِ، وتوجد شريحةٌ كبيرةٌ من السّوريّين اليوم تعملُ بمعدّلِ 70 ساعة أسبوعيّاً وأكثر، وذلك مع تدهورِ الاقتصاد وارتفاع الأسعار، والأوضاع المعيشيّة السّيّئة المفروضةِ دونَ رقيبٍ أو حسيب، فعمّال يومنا هذا هم امتدادٌ لأقدمِ توثيقٍ معروفٍ للعبوديّة كمؤسّسة وتجارة، والذي نجده في قانون حمّورابي حوالي 1760 قبل الميلاد، كما أنّها عُرِفَت في أغلبِ الحضارات القديمة ومجتمعاتِها: كالسّومريّين، ومصر، والصّين، والهند، واليونان، وغيرها، كما أنّ أهمّ وأشدّ صنفٍ من العبوديّة، والذي يعتقد أغلبنا أنّه اختفَى من عالمِنا، هو (العاملُ بالسّخرة) الذي يعملُ مُكرهاً مقابلَ غذائه فقط. ويشيرُ تقريرُ العبوديّة العالميّ إلى أنّ أكثرَ من أربعين مليون إنسان يعانون الاستعباد في يومنا الرّاهن، إذ يعمل منهم بالإكراه حوالي 23 مليون عامل، أغلبهم من النّساء العاملات (71%)، ومن المهمّ ملاحظَة أنّ أهمّ منتجات العبيد اليوم هي: الأجهزة الإلكترونية، والملابس، إضافة إلى السّمك والكاكاو والسكّر، وهناكَ دولٌ تحاربُ قوانينُها فعلاً استغلالَ العبيد وتجارة منتجاتهم ومنها: هولندا، السويد وبلجيكا في المراتبِ الأولى، ذلك أنَّ هذهِ الدّول تتّخذ أشدّ الإجراءات القانونيّة لمنعِ استيراد منتجاتٍ أنتجتهَا أيدٍ عاملة بالسخرة، فتحارب بذلكَ العبوديّةَ داخلَ أراضيها وخارجَها.

بالعودةِ إلى سورية ومع بدءِ العملِ على ملفّ إعادة الإعمَار يجبُ أن يكونَ للعمّالِ أولويّة، من حيث المشكلاتِ التي يعانون منها، والتّعويضَات القليلة مقارنةً بسنواتِ الخدمة، كما أنّ علاوة التّرفيع يجب أن تكون متناسبَة مع الأوضاع المعيشيّة الصّعبة (تقدر كفاءة العاملين مرة كلّ سنتين وتكون علاوة التّرفيع 9% لمن نالَ درجةَ جيّد وما فوق، و5% لمن نالَ درجةَ وسط)، ذلك أنّ التّقصير النّقابيّ باتَ مُشرّعاً والعمّال لا ينالون جزءاً من حقوقِهم، فالضّمان الصّحيّ في ظلّ الأوضاع الرّاهِنة وغلاء أسعار الأدوية وانقطاع بعضها، باتَ حملاً ثقيلاً على كاهلِ العامِل وهو يختلِف بين مؤسّسة وأخرى، إضافةً إلى المعاشِ التقاعديّ الذي يتمّ احتسابُ نسبتهِ حسب سنواتِ الخِدمة، وليسَ كما يجب أن يكونَ عليه، فالواقِعُ يفرضُ وجودَه على القانون لذلك من الواجبِ إعادةُ النّظرِ بجميعِ القوانين المطروحة ضمن أطر معيّنة، فنقابةُ العمّال هي صوتُ العاملِ والمواطنِ السّوريّ والإمكانيّات المقدّمة لها يجبُ أن تكون مناسبة لحاجات العمّال، وخاصّةً في ظلِّ التّهميشِ الحاصل للحقوقِ لاسيما لِمن يعمل في المؤسّسات والمعامل الخاصّة غير الملتزمة بالأوقات الرّسميّة للعمل، بل وتُسرّح عامليها بطرق تعسفيّة -رغم العقود القانونيّة المبرمة- دون سابق إنذار ودون ارتكابِهم لمخالفاتٍ أثناء العمل، لذلك على القانون أن يضمنَ حقّ العامل الذي يتعرّض لانتهاكاتٍ واضِحة من تسلّط ربّ العمل نتيجة الحاجةِ والفقر ومزاجيّة مرؤوسيِهِ، وعدم وجود مصدر رزق بديل، ذلك أنّ تشديدَ الأجرِ ورفعِهِ من أهمّ الأساسيّات الواجبِ طرحها ضمنَ تعديلات قانون العاملين السّوريّ، وأهمّها المادة رقم 65: (إذا لم يُثبت صاحب العمل ارتكاب العامل إحدى المخالفات المنصُوص عليها في المادة السابقة فإن إنهاءه لعقد العمل يُعدّ بمثابة التّسريح غير المبرّر، وفي هذه الحالة يستحقّ العامل تعويضاً مقداره أجر شهرين عن كلّ سنة خدمة على ألا يزيد مجموع هذا التّعويض على 150 مئة وخمسين مثل الحدّ الأدنى العام للأجور، ويستحق تعويضاً عن كسور السّنة بنسبة ما قضاه منها في العمل).

العامل السّوريّ تعرّض للموتِ والإصابة ودمارِ منزلِهِ وخسارةِ ممتلكاتهِ في كلّ لحظةٍ من سنواتِ الحربِ، ورغمَ ذلك بقيَ متمسّكاً بأرضِهِ وعملِهِ، لذا على نقابات العمّال الاهتمام أكثر والبحثِ عن سبلٍ لضمانِ حقوقِهم بالتّعاونِ مع الحكومةِ، بعيداً عن تسلّطِ أربابِ العملِ، فالأرزاق ليسَت في يدِهم، والبلدُ لا تخصّهم وحدهم، وبعيداً عن الشّعارات الرّنّانة، فهي لم تعد تجدي نفعاً في يومِنا هذا.

 

العدد 1107 - 22/5/2024