هذه هي الحقيقة

أيمن أبو شعر:

وقف الحكيم الأسطوري (خالد المزمان) على رابية قرب صديقته الشجرة الخضراء العملاقة الوارفة، وقف مع طلوع الشمس، عند شاطئ البحر، وراح يفتل بعض جدايل لحيته الطويلة الكثيفة، وهو يرمق الأفق، ويحدث الشجرة قائلاً: حشود رائعة نبيهة تتوجه نحونا، يحمل شبابها وشيبها وصغارها مصابيح إلكترونية، وحواسيب كومبيوترية، وأدوات هندسية، وهم ينشدون مبتسمين متضاحكين.

ولكن – توقف لحظة ثم تابع- تعاديها وتسير باتجاه معاكس تماما، نحو الصحراء، وهوة الظلام، حشودٌ كقطعان لا جدوى منها، يحمل شبابها وشيبها وصغارها مشكاوات، وكتبا صفراء، وخناجر معقوفة. جميعهم في الحشدين حسب معتقداتهم يبحثون عن الشمس والبحر والشجرة الخضراء، لكن لماذا يسير ذاك الحشد باتجاه الغروب والصحراء؟! – هز رأسه بأسى ثم أردف- هذا طبع لدى هؤلاء، طبع بات موغلاً في جيناتهم نتيجة قناعات قدسية، يقودهم الوهم، ولا يستمعون إلى نصائح المجربين العارفين، بأن عليهم أن يعيشوا في ظل العملاقة الخضراء، وينعشوها ليقتاتوا من ثمارها، بل إنهم ينبذونهم، وأحيانا يتخلصون منهم كخونة!

استند (خالد المزمان) إلى عصاه، وحول وجهه إلى صديقته الشجرة العملاقة دائمة الخضرة وقال: أنت تفهمينني جيداً، كل يوم أنتظر فرحة اللقاء بالرائعين القادمين في الطريق الصحيحة، وأتأسف على تلك الجموع الغبية، ولا أستطيع أن أفعل لها شيئا! إنهم يتقدمون بالاتجاه المعاكس، أي أنهم يبتعدون بقدر ما يعتقدون أنهم يقتربون، وهم يتدافعون بحماس منقطع النظير، وكلما تجاوزوا رابية فيها جماجم وعظام بشرية كإشارة إلى أنهم في الطريق الخطأ، قال مرشدهم: هذا غضب من السماء، فسارعوا لتجاوز الرابية التالية، وكلما عبروا نهراً بعكس تياره وغرق بعضهم، وسحب بعضهم التيار، قال مرشدهم: (هذا نتيجة ضعف الإيمان)، فيغذون السير ليعبروا النهر الذي بعده، وهم لا يعرفون -وقسم منهم يتجاهل- أن البحر في اتجاه مسار النهر، فهناك ستصب الأنهار في البحر الذي يسيرون بعكس اتجاهه، فكيف سيصلون إليه، وها هم يبتعدون عنك كل يوم يا صديقتي، وعن الشمس كل طلوع فجر، وعن البحر كلما أوغلوا في الصحراء، يتنافسون ويتقاتلون: من سيكون في المقدمة في هذا السباق الساذج العقيم. ولهذا يقود القافلة في الصحراء حمار.

توقف (خالد المزمان) وتنفس بعمق، ثم تنهد بحرقة وقال: مؤسف لأنهم سيدركون بعد فوات الأوان أن نهاية طريقهم هاوية الظلام، هناك حيث صخور قاع الواقع لا ترحم…- ثم ابتسم فجأة وأضاف-: ولكن علينا أن نزين ساحتنا، فها هي طلائع الرائعين قد ظهرت في الأفق، إنهم مرهقون، لكنهم يبتسمون ويرفعون الأعلام موقنين بأنهم سيصلون إلى بوادينا وشواطينا مع بزوغ الشمس التي لا تغيب.. سيصلون حتماً بالوقت نفسه الذي سترتطم فيه الرؤوس اليابسة المتعفنة بصخور قاع تلك الهوة السحيقة. نعم، تلك هي الحقيقة!

 

العدد 1105 - 01/5/2024