التسلية والتنقيط.. حضارة مَن؟

بشار المنيّر:

(المطلوب منا أن نبيّن معالم الطريق التي ستفضي إلى حضارة جديدة)، هكذا خاطب ميخائيل غورباتشوف من على منبر المؤتمر العالمي الذي عقد في الولايات المتحدة الأمريكية، جنوب جسر (غولدن غات) في سان فرانسيسكو، خمسمئة شخصية عالمية في نهاية أيلول (سبتمبر) 1995. أما الحاضرون فهم قادة سياسيون حاليون وسابقون ومستشارو المصارف، وعمالقة الصناعة وأرباب الأسواق المالية، وفلاسفة الليبرالية الجديدة مــن أمثال جورج بوش الأب، ومديرميكرو سيستمز للكومبيوتر، ومسز مارغريت تاتشر، وجورج شولتز، ورئيس مؤسسة CNN، وغيرهم من أساتذة الاقتصاد الكبار في جامعات ستانفورد وهارفارد وأكسفورد.

لقد بدأ الحوار حول معالم الطريق، وتناوب الصناعيون الكبار وأصحاب الشركات على طـرح رؤيتهم للحضارة الجديدة، وكان القاسم المشترك لدى الجميع أن القرن الحادي والعشرين هو قرن القطع الكبيرة التي تستطيع البقاء في غربال النظام الاقتصادي العالمي، القائم على التكنولوجيا والاتصالات، إنه قرن العشرين والثمانينوالمقصود هنا أن 20% فقط من السكان العاملين يستطيعون الحفاظ على نشاط الاق، تصاد العالمي، ولن يكون هناك حاجة إلى أكثر من ذلك، سينتجون السلع ويقدمون جميع الخدمات رفيعة المستوى التي يحتاجها المجتمع العالمي، أما النسبة الأخرى وهي الثمانون بالمئة، العاطلون عن العمل، فعليهم أن يعانوا، فالمسألة ستكون في المستقبل كما يقول مدير مؤسسة (سان) إما أن تأكل.. أو تؤكل، وطبعاً لم يعترض أحد من الحاضرين على هذه الرؤية، ولم يروا فيها ما يستحق المناقشة، بل نال من اهتمامهم مصطلح Tittytainment)) الذي طرحه زيغنيو بريجينسكي المستشار السابق للأمن القومي، إذ أوضح أن هذا التعبير المؤلف من كلمتين يشير إلى التسلية والحليب الذي يفيض من ثدي الأم المرضع، أي بقليل من التسلية المخدرة والتغذية يمكن تهدئة خواطر هؤلاء المحبطين.

وهكذا راح رجال الأعمال يناقشون بمسؤولية عالية ورزانة يُحسدون عليها الطرق المتاحة أمام الخمس الثري لمساعدة الأربعة أخماس غير المحظوظين.. الفائضين عن الحاجة، وأكد المجتمعون أن التزاماً من قبلهم تجاه هؤلاء أمر غير وارد، فشدة المنافسة التي تفرضها العولمة تنفي إمكانية الالتزام، وهم يدعون بدلاً من ذلك إلى مساعدة الناس بعضهم لبعض، وربما المنظمات الخيرية ستلعب دوراً في مساندة هؤلاء.

وساند أساتذة الاقتصاد في الجامعات المشار إليها توقعات رجال الثروة، وأكدوا أن المستقبل القريب سيجبر كثيرين في الدول المتقدمة على العمل في المنازل أو تنظيف الشوارع للحصول على ما يسد الرمق، وأن عصر المجتمعات الصناعية، وما أفرزه من مستوى معيشي مرتفع لجمهور المجتمع، ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي، ولن تسمح ظروف الاقتصاد العالمي مستقبلاً بتكراره. (1)

إن الاقتصاد القائم على تطور الكفاءة والتكنولوجيا وبرمجيات الذكاء الصناعي، وما يفرضه من إعادة الهيكلة والتخلص من التعقيد والروتين، يتسبب بتقليص فرص العمل وتفاقم البطالة، وبالتالي خفض أعداد المستهلكين، وسواء تعلق الأمر بصناعة السيارات أو أجهزة الكومبيوتر أو شبكات الاتصالات والخدمات المالية، فإن الأمر سيان، فحيثما تجري المتاجرة بالبضائع والأموال والخدمات عبر حدود مفتوحة خصيصاً لهذا الخمس، فإن الفقر والبطالة ستعصف بالباقي، ففي الشطر الغربي من ألمانيا الموحدة ضاع في القطاع الصناعي بين عامي 1991- 1994 ما يزيد على مليون فرصة عمـل، علماً بأن ألمانيا في وضع اقتصادي مميز عن الكثير من الدول الأوربية الأخرى،  وزاد عدد الذين يبحثون عن فرصة عمل في دول منظمة التنمية والتعاون الدولي المؤلفة من 23 دولة صناعية غنية وخمس دول جوار فقيرة، على أربعين مليون مواطن، ولو نجحت المصـارف الألمانية في تحقيق الإنتاجية السائدة لدى عملاق المصارف الأمريكية (سيتي كورب) في عام 1995، فإن عدد العاملين الذين سيفيضون عن الحاجة سيبلغ نسبة 30 % من عدد العاملين الحالي، أما العاملون الذين سيفيضون عن الحاجة لدى شركات الاتصالات الأوربية، فيما لو سادت فيها الإنتاجية نفسها السائدة في شركة الاتصالات الأمريكية (باسيفيك) في عام 1994 فستبلغ نسبتهم 35 % من العدد الإجمالي.

أي حدّ من الهيمنة والتحكم ستصل إليه طغمة أسواق المال والصناعة والمصارف في عالمنا، خاصة بعد أن أطلقتها الليبرالية القديمة والجديدة من قمقم الاتفاقيات الملزمة اتفاقية (بريتون وودز) التي وضعت قيوداً على أسعار الصرف وانتقال رؤوس الأموال بين الدول، وجعلتها تحول العالم بأكمله إلى سوق واحدة تتحكم فيها بأحجام العرض والطلب وسـعر الفائدة وانتقـال رأس المال بين بلد وآخر، وأي فخ ينصب للدول النامية تحت المطالب المتزايدة بفتح الأسواق، وإلغاء السياسة الحمائية بحجة تنشيط التجارة العالمية والاستفادة من أفضليات تدفق السلع والخدمات المتطورة بين الدول، وكيف تستطيع الدول الفتية الوقوف بوجه هذا الاجتياح لرؤوس الأموال الباحـثة حتى عن أنصاف الفرص!؟(2)

وكي لا نجنح كثيراً بالخيال فلا أحد يفكر اليوم بالعودة إلى مبدأ الحماية عبر إقامة المتاريس والجدران العازلة أمام تدفق السلع والخدمات بين الدول، فتلك السياسة أصبحت من الماضي، القضية الأساسية التي ينبغي التمسك بها هي أين مصلحة الوطن والشعب بمجموع فئاته من أي قرار يتخذ على الصعيد الاقتصادي، وكيف سينعكس على الوضع المعيشي في أي من البلدان النامية، وبتعبير آخر كيف يمكننا الاستفادة من الأسواق العالمية لتسهيل ورود السلع وتدفق الاستثمارات والاندماج بالاقتصاد العالمي من جهة، والحرص على تطوير الاقتصاد الوطني ومصالح المواطنين، وعدم التعرض للازمات التي عصفت بكثير من الدول النامية وأدت إلى كوارث حقيقية دفعت الشعوب ثمنها غالياً من جهة ثانية.

لقد تحول العالم في ظل وحدانية القطب الأمريكي إلى ساحة تصول فيها وتجول شبكة معقدة من مراكز القرار الأمريكي، لا تتورع عن الضرب تحت الأحزمة من أجل تحقيق مصالحها على حساب شعوب العالم بأسره.

كثيرون يتوقعون، بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تغييراً هاماً في أسس العلاقات الدولية باتجاه عالم متعدد الأقطاب، قد يفتح الآفاق أمام الدول النامية في تحقيق التنمية دون وصاية الأمريكيين وصناديقهم ومؤسساتهم.. وأثريائهم.

 

basharmou@gmail.com

المراجع

1-راجع فخ العولمة – مارتين وشومان.

2-راجع ما العولمة – هيرست وطومسون

العدد 1107 - 22/5/2024