في الذكرى الحادية والثمانين لولادة محمود درويش.. محطّات في مسيرته الشعرية

سعيد بشتاوي:

الثالث عشر من آذار شكّل إضافةً نوعية إلى التراث الأدبي العربي المعاصر، وأقصد بهذه الإضافة ذلك المتمرِّد على عصره، المتمرّد على الشكل والمضمون في النص الأدبي، المنصاع للغة بكل أوامرها وتفاصيلها، محمود درويش، الذي يصادف يوم 13 آذار الذكرى الحادية والثمانين لولادة ما أسميه أسطورة عنقاء الشعر، وأنا أتمسّك بهذه التسمية لأن محمود درويش – الشاعر لم يستطع الموت أن يجعله مغيّباً تماماً، بل ما زالت هذه الأسطورة تُولَد كل يوم بفضل ما ترك من إرث ثقافي كبير يفتح أمامنا أبواباً كثيرة من التفسيرات والتأويلا،ت وكل هذه التفسيرات والتأويلات اتّفقت على براعة النص الدرويشي، واختلفت في طريقة تناول هذا النص الذي يأبى الانطواء أو النسيان.

لقد مثّل محمود درويش مدرسة شعريةً فذّة، إذ استطاع بشكل أو بآخر أن يزاوج بين ما هو معاصر وحديث وما هو قديم غابر؛ إذ قَدِر على أن يجمعَ بين الشكل الشعري الحديث، والمضمون القديم حيناً، والمعاصر حيناً، فالذي يطالع أشعار الدرويش، يجد أن هذه الأشعار هي ديوان للأدب وديوان للفلسفة، وديوان لفلسطين التي شكّلت محطة بارزة في شعر محمود درويش، وديوان لوجدان محمود المهجّر، اللاجئ، العاشق، السيئ الحظ، المترامي بين أحضان المنافي، الحنون لفلسطين وتربتها وجوها وبحرها.

وفي الواقع فإن حياة وشعر محمود درويش مرَّا بثلاث مراحل أساسية:

  • مرحلة الماركسية وهي مرحلة الشباب والعنفوان.
  • مرحلة البعد القومي، وهي مرحلة ما قبل الهدوء النفسي والوعي التام.
  • مرحلة البعد الوجداني والإنساني، وهي آخر مرحلة اختتم بها درويش مسيرةَ حياته الشخصية والأدبية.

ومن المنطق أن نقول: إن لكل مرحلة من تلك المرحلة مبرراتها، ولا يعني ذلك تقلّب محمود درويش بين إيديولوجيات مختلفة، وإنّما يعني أنّ الرجل حاول أن يواكب المتغيرات التي طرأت على العالم وعلى الوضع العربي وحتى الوطني الفلسطيني، ففي المرحلة الأولى وكما هو معروف أن الماركسية نظرية ثورية تهدف إلى تغيير الواقع إلى واقع أكثر مثاليةً وعدلاً واشتراكيةً، ومثل هذه الأفكار لا بدّ أن تستهوي فئة الشباب الذي يكون في مرحلة شبابه متحمساً لأن يُحدِث تغييراً ملموساً لواقع المجتمع، وقد تجلّت ذروة هذه المرحلة عندما انتسب إلى حزب راكاح (الشيوعي الإسرائيلي)، وأما في المرحلة الثانية التي جاءت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي أدّى انهياره إلى ارتداد الكثير عن هذه الفكرة، فتوجّه محمود درويش إلى الإيديولوجية القومية التي حاول من خلالها تجميع وجهات النظر العربية حول القضية الفلسطينية، وأما المرحلة الثالثة فإنه يبدو أن محمود درويش فقد قناعته بالماركسية والقومية فخلع رداءهما، والتفت إلى الجوانب الوجدانية وقضايا الإنسان، ولكن يجب الإشارة إلى أن فلسطين كانت حاضرة في هذه المراحل الثلاث التي مرّت بها حياة محمود.

لقد شغلت الرمزية في شعر محمود درويش حيِّزاً كبيراً من شعره، وهذه الرمزية أَثرَت نتاجه الأدبي، كونها منبثقة عن ثقافة محيطية له، وكونها ساهمت بشكل كبير في تسهيل عملية وصول النص للمتلقِّي القارئ الذي شاركه محمودٌ همومَه وجعله جزءاً من القصيدة، لدرجة أنّ كلَّ من يقرأ نصّاً لدرويش يشعر وكأنّه صاحب النص، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على براعة محمود، وإتقانه لصنيعه الشعري الذي كرّس له كلَّ حياته رافضاً شريكاً آخر له غير الشعر، وأورثت هذه الرمزية شعرَ محمود المزيد من التماسك والوزن الثقافي الكبير، فمثلاً نلاحظ اتخاذه (نيرون) رمزاً يرمز به إلى تغوّل الاحتلال، ومدى جشعه وإمبرياليته، وقد استطاع بحِرْفيته الشعرية أن يجعل نيرون رمزاً للكيان الصهيوني السعيد بحريق فلسطين وسائر أقطار الوطن العربي:

وماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرَّج على
حريق فلسطين؟ يُبهجه أن يُدرَج اسمه في قائمة
الأنبياء نبيّاً لم يؤمن به أَحد من قبل، نبيّاً
للقتل كلَّفه الله بتصحيح الأخطاء التي لا حصر
لها في الكتب السماوية: أنا أَيضاً كليمُ الله!

وعلى الرغم من وفرة الرموز في شعره، إلا أن هذه الرمزية لم تكن خللاً أصاب قصيدته بوصف الرمز عاملاً يساهم في جنوح المعاني إلى الصعوبة والغموض، وما ميّز الدرويش أنه كان مدركاً لأهمية المكان والزمان كعنصرين لا يمكن إغفالهما في بنية القصيدة، وقد لُوحِظ ذلك في أكثر من موضع في قصائده، وهذه الرؤية للمكان والزمان أقرنها محمود بالحنين إلى هذا المكان، وإلى التمسك بذلك الزمان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ محموداً حَرصَ على توثيق فكرته ومقاصده، كي يكون الزمكان ذلك الوعاء الذي يحتمل كلَّ المعاني، فاهتمّ بكل تفاصيل الأرض – الوطن؛ لأنه آمن بقدسية تلك الأشياء وبخلودها، فشجرة الزيتون عند محمود هي من الشواهد التاريخية التي تخلّد أحقية أهل الأرض للأرض:

شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك. هي
سيدة السفوح المحتشمة. بظلها تغطي
ساقها، ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة.
تقف كأنها جالسة، وتجلس كأنها واقفة.

وهذا المقطع يحيلنا لقضية نقدية سوى الرمزية مفادها اعتماد محمود درويش على جدلية القصيدة أو تضاد القصيدة، وقد جعل من هذا التضاد رغم تناقضه معنىً متِّحداً، إذ جعل التضاد يقوم على معنى واحد، فالزيتونة إن بكت وإن ضحكت، هي في حالة واحدة، هي سيدة السفوح الرزينة ذات القيمة السامية العالية، وكالجدلية القائمة في قوله:

يكلّفني الحبُّ

ما لا أحبُّ

واهتم بكل تفاصيل الزمان، عنصراً رئيساً مساهماً في بناء القصيدة، ونلحظ ذلك بشكل واضح في ملحمية (مديح الظل العالي) الذي تكلّم في جزء منها على بيروت بكل أوقاتها:

بيروت فجراً

يطلق البحر الرصاص(..)

بيروت ظهراً

يستمرُّ الفجر منذ الفجر(..)

بيروت عصراً

ينكسر الهواء على رؤوس الناس

من عبء الدخان

بيروت ليلاً

يخرج الشهداء من أشجارهم

يتفقدون صغارهم (..)

فهذا اليوم البيروتي الذي جسّده محمود يوضّح بشكل كبير ذلك الزمن الذي غدر ببيروت، هذه المدينة اللطيفة الأليفة الناعمة، ليرمي هذا اليومُ أحداثَه على باقي الأيام حتى يَعدِيَها بذلك الكمِّ الهائل من المعاناة والدماء والتراجع.

وقد اعتمد محمود درويش في قصائده على التلاعب بالمعاني أو ما يُعرَف بالمصطلح النقدي بالانزياح؛ أي يُسنِدُ الفعلَ إلى غير فاعله الحقيقي المألوف وهذا في البلاغة يُسمَّى بالاستعارة، وهذا الانزياح ساعد محموداً على الغوص أكثر في بحر معانيه ومقاصده؛ ومن المعروف أنّ الماءَ لا يجرح، ولكن محمود جعله يجرح، وذلك يدلّ على تردّي الحالة العاطفية التي كان يمرّ فيها، ويدلّ على المدى الكبير للغربة التي عصرتْ حياته كالعنب:

لأنَّي أحبّك (يجرحني الماءُ)

والطرقاتُ إلى البحر تجرحني
والفراشةُ تجرحني
وأذانُ النهار على ضوء زنديك يجرحني

إذن كلُّ شيء يجرحه، والسببُ الحبُّ، إنه حالة من الشّعور واللاشعور التي وقع فيها محمود درويش، والتي أشار إليها الانزياحُ الذي لجأ إليه محمود درويش بكثرة متخذاً من هذا الانزياح فضاءً كبيراً لأفكاره وبث مكنونات خلده.

وأما التناص فلم يغفل عنه درويش؛ إذ طوّعه في شعره بطريقة فيها الكثير من الإبداع والاحترافية الأدبية، وإذا ما ولجنا إلى التناص كمصطلح فإننا نجد أن التناص هو ذلك التخاطر أو التشابه الذي يكون بين نص وآخر، وبمعنى آخر، فإنّ التناص هو الاستفادة من النصوص الأخرى، وقد تكون هذه النصوص الأخرى نصوصاً أدبية، أو دينية أو تاريخية أو فلسفية أو أسطورية، واستخدام الشاعر للتناص لا يعني أنّ الشاعرَ ضعيف الأخيلة وجافّ الشعور، بل إنّ الكثير من النصوص التي يتضح فيها التناص كثيراً ما كانت تدفع النص إلى أن يحقق هويته الإبداعية والأدبية، وذلك إذا استطاع الشاعر بعبقريته أن يطوِّع هذا التناص كما يريد، وهذا ما فعله محمود درويش، الذي جعل من التناص من خلال عبقريته مادّةً استهوت الكثير من القرّاء، وأجيز لنفسي أن أقول إن محمود درويش ربط بشكل رهيب بين التناص والرمزية، فهو لم يكتفِ بالاستفادة من التناص شاهداً على فكرته، بل حوّل بعضاً من أجزاء التناص إلى أن يكون في الوقت ذاته رمزاً له معناه ومغزاه، فمحمود درويش يتكلم بضمير ياء المتكلم ليصف حالة جماعية للمقاوم الفلسطيني في بيروت هذا المقاوم الوحيد، المتروك، المخذول، المتعب من الخطابات والوعود، اليائس من الواقع العربي المرير وانعكاسه السلبي على واقع الصراع الصهيوني الفلسطيني، هذا المقاوم الذي صبر أكثر من أيّوب، والذي وُلِد وتجدّد أكثر من العنقاء، والذي تُرِك بلا صحابة يشيرون عليه ويساندونه:

وحدي أدافع عن جدارٍ ليس لي،

وحدي أدافع عن هواء ليس لي،
وحدي على سطح المدينة واقفٌ،
أَيُّوبُ ماتَ, وماتتِ العنقاءُ، وانصرفَ الصَّحابَهْ

في هذا المقطع، يستند الدرويش إلى تناص ديني (أيُّوب / الصحابة)، وأسطوري تاريخي (العنقاء)، ولا شكّ أنّ أيّوب في الديانات السماوية رمزٌ للصبر، وأنّ العنقاء رمزٌ للتجدد والولادة بعد الاحتراق.

نستطيع القول إن محمود درويش شكّل حالة شعرية إعجازية صعبة التكرار ولا حتّى التقليد، وهذه الكلمات الموجزة هي محض عناوين عريضة للوسائل المستخدمة في سطور درويش، استخدمها بكل سهولة وسلاسة دون تكلّف ولا حتّى تصنّع، وكأنه نبع كلمات تناسب منه الكلمات سلسبيلاً سائغاً عذباً، فلا هو يتحمّل مشاق الكتابة، ولا المتلقي يتحمّل مشاق الفهم.

 

العدد 1105 - 01/5/2024