أمهاتنا وطبخة الحصى اللذيذة

حسين خليفة:

الأطفال جائعون، والزمن يشبه زمننا هذا، اللصوص والحكّام (أو الحكّام اللصوص) لم يتركوا شيئاً صالحاً للأكل إلاّ وجعلوه عسير المنال.

يبكي الأطفال الثلاثة بعد أن يعضّهم الجوع بأنيابه الحادّة، والأم الوحيدة تنظر إلى السماء وتلهج بالدعاء، لكن لا مجيب.

تفكّر في مغامرة طرق الأبواب لتطلب كسرة خبز، أو قليلاً من البرغل أو العدس، لكنها تتذكّر المرّة الوحيدة التي طلبت فيها من أقرب جيرانها فكان أن عرض عليها الجار (الطيب) إطعامها وأولادها مقابل أن تسلمه جسدها، أيُّ ذئب أهوج يفكّر في افتراس هذا الجسد الهزيل؟!

لمعت في ذهنها فكرة طبخة الحصى، الحصى كثيرة بجانب النهر، والماء وافر (لم يكن اللصوص قد وجدوا وسيلة لتجفيفه حينذاك)، والحطب أيضاً.

قالت اصبروا قليلاً يا صغاري، سأضع الطبخة على النار، هدأ الصغار قليلاً بقوة الأمل الذي بثّه كلام الأم في أرواحهم البيضاء.

وبدأت حكاية طبخة الحصى.

بدأ الأطفال يسمعون بقبقة الحصى بعد أن بدأ غليان الماء، فيمنّون أنفسهم بعشاء ساخن لا يهمّ ما يكون، المهم أن يذهب عنهم الجوع.

انتظروا طويلاً، بكوا كثيراً، غلبهم النعاس أخيراً، ليس النعاس الذي يفضي إلى نوم عابر، ذهب الثلاثة الى نوم أبدي، فيما الأم تخرج كل هنيهة لتقلّب الطبخة لعلّها تستوي، نعم لقد دخلت في اللعبة، صار لديها أمل ما أن تقوم قوة أسطورية بقلب الحصى التي تغلي إلى لحم شهي أو برغل على الأقل، وحين وجدت الأولاد غادروا دنيانا جائعين فقدت ما تبقّى من عقلها.

لم يأتِ لصّ الحكاية الشريف، الذي تسلّل الى منزل المرأة الخاوي إلّا من ألم وأمل بطبخة حصى ليسرق، فاكتشف بكاء الأولاد وطبخة البحص، تسلّل إلى أغنى بيوت المدينة، استغفل الحرّاس والعسس وسرق ما تيسّر من مؤونة، ثم عاد الى بيت المرأة وأبدَلَ الحصى بما تيسر من طعام، لم يأتِ.. لقد قتله كبير اللصوص.

في الصباح سمع الناس صياح امرأة تجوب الشوارع، امرأة شقّت ثوبها فبان الجسد الضامر بعظامه الناتئة، وهي تشدُّ شعرها الأشعث وتصرخ: لقد سرقوا طبخة الحصى أيضاً، سرقوا أولادي، سرقوا طعامهم الذي كان على النار!

هذه حكاية الأمهات السوريات في هذا الزمن الثقيل الذي يأبى أن ينزاح عن كاهل من بقي من السوريين في هذا المستنقع الآسن، ولم يتسنََّ له الهرب من انتظار طبخة الحصى السورية.

كيف سيحتفل السوريون بعيد الأم الذي تعوّدوا قبل أن يجرّهم اللصوص إلى حرب لينهبوا تحت الحراب ما لم ينهبوه أيام السلم؟!

والحرب تربّي لصوصها الجدد أيضاً، صار لدينا لصوص جدد يقتلون حتى اللص (الشريف) الذي يستفيق بقية الضمير فيه لمرأى الجوع والعوز والحاجة، فيصبح روبن هود أو عروة بن الورد ولو للحظات.

سرقوا أعيادنا أيضاً.

سنذهب إلى أمهاتنا خالي الوفاض ولو من وردة، فقد صار الورد أيضاً عصيّاً على الشراء في زمن اللصوص.

لكننا لن نخذل انتظارهن لنا، لقدومنا، لدفء قبلاتنا على أياديهن المليئة بالتجاعيد ورائحة الخبز المقمّر على نار التنور.

سنحضن قاماتهن المتهالكة لنشمَّ رائحة الحياة الأولى، الحياة الأنقى.

سنقبِّل وجناتهن لنغترف من ينابيع الحب الأنقى والأصدق والأنقى.

سنقهر اللصوص والأفّاقين الذين حرموا أمهاتنا الثكالى من فلذات أكبادهن، بزجّهم في الحروب وتحويلهم إلى مرتزقة وبنادق للإيجار في كلّ حرب تشتعل على امتداد هذا العالم، الذي يكاد ينفجر كله من ازدياد القهر والغضب لدى الأغلبية المسحوقة، وتراكم البطر والجنون لدى أولئك اللصوص وأمثالهم على امتداد بقاع الأرض، و(في كل أمة أمتان ظالمة ومظلومة).

سنقهرهم ببقيّة الأمل الذي لا ينطفئ ما دامت ابتسامة الأم تستقبل الباقين من أبنائها ممّن لم تبتلعهم الحروب والهجرات.

سنقهرهم بزيارة قبور من رحل من الأمهات لنخبرهم إنّ من سلبوا منهن الحياة قبل أن يرحلن، بتغييب أبنائهن وقتلهم وتهجيرهم، لن يبقوا إلى أبد الدهر متحكّمين برقاب الناس ومصائرهم، وإنّ لحظة الحساب قادمة وسنبشرهم بها حالما يأتي اليوم الموعود.

هي ليست طبخة بحص.

هو إيمان بقوة الناس، بقوة الأفكار حين يؤمنون بها ويتناقلونها، بقوة التاريخ حين يلقي علينا دروسه ببطء وهدوء كي لا ننسى.

لأمهات سورية: كل عيد وأنتن الحياة كلها!

والرحمة لمن رحلن منهن جسداً وبقيت أرواحهن تلمّ الأبناء والأحفاد وتزرع فيهم الحب والأمل.

العدد 1107 - 22/5/2024