روسيا.. خطوتان إلى الأمام خطوة إلى الوراء!

كندي أحوش:

لم يتسنَّ للمتابعين حول العالم التقاط أنفاسهم، بعد إعلان روسيا البدء بسحب قواتها من الحدود الأوكرانية، حتى تسمّر العالم من جديد على إعلان روسيا الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودانيتسك.

 

روسيا

دولة متعددة القوميات والاديان والثقافات وكل ما يخطر على بال، شعبها عنيد وشجاع ومتماسك جداً عندما تمس مصالحه وأمنه الوطني.

أحبها الغرب عندما انهارت فيها الدولة الاشتراكية وتحولت عن بكر أبيها إلى ارصدة في حسابات الديمقراطيين الجدد في بنوك الغرب.

أحبوها عندما توقف فيها كامل الإنتاج الصناعي المدني والعسكري وانهارت بنيتها الزراعية.

أحبوها عندما لم تقوَ أن تذكّر الغرب بالضمانات الأمنية بعدم تحرك الناتو نحو حدودها.

أحبوها لأنها لم تستطع منع غزو العراق ويوغسلافيا وليبيا.

أما الآن، فهي، بحسب عقيدة الناتو القتالية، العدو الذي يجب مقارعته ونقل الحرب إلى حدوده.

روسيا (الرأسمالية) اليوم ورثت لقب العدوّ من شيوعية الاتحاد السوفييتي، حتى يبدو أن العداء هو للشرق الغني بالثروات المادية والبشرية والواعد والقادر على خلق توازن سياسي واقتصادي وعسكري، في مواجهة المشروع الغربي في الحفاظ على مكتسبات حقبة الاستعمار بمرحلتيه المباشر وغير المباشر.

إنها حرب الولايات المتحدة الاستباقية التي تسابق الزمن قبل خروج الولايات المتحدة من مرتبة الاقتصاد الأكبر في العالم لصالح الصين التي تجردهم يوميا من الحدائق الخلفية التي يقتاتون على ثرواتها في افريقيا واميركا الجنوبية.

الأزمة الأوكرانية هي بروفه لمعركة المصير الكبرى، وليست حقوق أوكرانيا وسيادتها واستقلالها، فأوكرانيا وشعبها وتراثها وثقافتها روسية أكثر من موسكو وسان بطرسبورغ.

يجلس البريطاني ويذكّر رفاقه الغربيين بأننا لا نحتاج إلى اختراع العجلة من جديد فمبدأ (فرّق تسُد) لا يزال فعّالاً في زمن العولمة، وأن هناك فريقاً من القوميين المتعصبين في أوكرانيا مستعد للإطاحة بالتاريخ والجغرافيا وليس لديه مشكلة مع الدماء، فكما في كل الحروب سيساق المواطنون البسطاء إلى طاحونتها وسنجني نحن أرباحها كما العادة، وأما الخسارة فسيتكفّل بها الشعبان الروسي والأوكراني.

 

القوميون الأوكران

لا أدري ما إن كانت هذه التسمية دقيقة، فالقومي الأوكراني ينبغي أن يتمسك بروسيته، وفق ما يمليه منطق التاريخ والثقافة، والأصح ربما تسميتهم بالقوميين الافتراضيين الأوكران.

ثماني سنوات مرّت وأوكرانيا تحت قيادتهم (الديموقراطية) كما يدعون هم وحلفاؤهم، فماذا حصدت أوكرانيا سوى تراجع معدلات نموها الصناعي والزراعي، وانتشار أوسع للفساد، وسرقة حصة من الغاز الروسي دون سداد، واستباحة جغرافيتها موطئاً لكل خصوم أشقائها الروس، والسعي لجلب الناتو إلى حدوده الجنوبية لتدمير الأمن الوطني والإقليمي لروسيا لتصبح دولة محاطة بمن يصنفها في عقيدته العسكرية بالعدو.

هل يمكن لعاقل أن يفسر هذا الافتراء الكبير على جارتها وأختها التوءم على أنه ليس رعونة وقصر نظر تصل إلى حدّ الخيانة للمصالح الوطنية للشعبين الشقيقين في أوكرانيا وروسيا.

ما الذي منعكم، أيها الديمقراطيون الافتراضيون، من تطوير بلادكم وتحسين مستواها المعيشي، والقضاء على الفساد، وتكريس الدولة الديمقراطية القوية والعادلة خلال العقد المنصرم؟!

ديقراطيتكم مزيفة كديموقراطية يلتسين، بلا لون ولا طعم ولا نتائج ولا رائحة غير رائحة الفساد والتعصب والعنصرية.

كيف يمكن لديموقراطيتكم الافتراضية أن تشكل ندّاً منافساً للأوتوقراطية الروسية التي حافظت عى وحدة بلادها، وأعادت عجلة الصناعة، وتنامى دخلها القومي، واتسعت رقعة حلفائها وحضورها السياسي في محيطها الأوروآسيوي والدولي.

 

أوربا

قلب أوربا هو ألمانيا وفرنسا، وكلاهما يقرّان، عن وعي، بشمولية الأمن الأوربي، وأن الأمن المتبادل مع روسيا هو في صلب الأمن الأوربي بل وأساسه المتين. وتحدثت الدولتان على لسان فرنسا عن جيش أوربي مشترك، وأول ما يعنيه ذلك هو رغبة الدولتين بالتحرر من التبعية للهيمنة الأمريكية على الحلف وتسخيره المستمر لحماية مستقبلها الغامض، بغض النظر عن المصالح المباشرة لحلفائها الأوربيين.

فالجيش الأوربي لا يمكنه من حيث الإمكانية ولا من حيث المصلحة أن يبني عقيدته على العداء لروسيا، بل على الأمن المتبادل الذي يرعى مصالحها الاقتصادية مع عمقها الأوربي في هذا الشرق المتخم بالطاقات البشرية والثروات، مؤمّنة استمرار استقرارها الاقتصادي المبني على المصالح المتبادلة بين الطرفين.

الولايات المتحدة أعادت ابنيها الضالين إلى حظيرتها مرغمين قبل أن ينضج مشروعهم الاستقلالي، وزجّت بهم في مواجهة روسيا مرغمين ليصبحا طرفا نزاع بدل أن يكونا طرفي مصالحة كما دأبا على ذلك في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى زيارة ماكرون وشولتس إلى موسكو الأسبوع الفائت.

 

مفتاح الحل

أوضح الرئيس بوتين خلال الأسبوع الفائت أكثر من مرة أن الحوار في هذه الأزمة هو مع المايسترو في الولايات المتحدة، ملمحاً إلى أن الزعماء الاوربيين هم ضيوف بمرتبة مراسلين (شكر الله سعيهم) وهذه كانت الرسالة الأهم التي حملها بوتين لضيوفه، وأكد تلك الصورة في لقائه المتلفز مع لافروف وزير خارجيته، عندما أنهى الكلام بسؤاله عن إعداد مذكرة للرد على الأمريكان متجاهلاً ضيفه شولتس ليقول بمعنى مبطن (أنت وماكرون أصبحتم مثل عضرط، لا يحل ولايربط!)، وفي مثل أكثر تأدّباً: (إن وجد الماء، بطل التيمّم).

 

الاعتراف بالاستقلال

بعد أن اتضح أن الأمريكان ليس لديهم خطة بديلة عن تشديد العقوبات على روسيا، وأن لا ضمانات لعدم ضم خاصرة روسيا الجنوبية إلى الناتو، وأن التصعيد الإعلامي مستمر، وصب الزيت على النار لم ولن يتوقف، لأن الهدف الرئيسي هو إخراج روسيا وإشغالها عن المواجهة الكبرى مع الصين، وتشتيت قوتها في حرب روسية أوكرانية نتيجتها العسكرية محسومة لصالح الروس، ولكن آثارها على الاقتصاد والمجتمعين الروسي والأوكراني كارثية ستقلص إمكانيات روسيا إلى حدود دولة إقليمية، ومن ثم البدء بتفكيكها بلعبة سوروس الشهيرة في الثورات الملونة وسفيره فوق العادة (جيفارا) الجديد هنري ليفي، ملهم المجالس الوطنية الفاشلة حول العالم.

 

روسيا.. خطوتان إلى الأمام

تقدمت روسيا خطوتين وألقت بمسؤولية الرد إلى ساحة خصومها:

الخطوة الأولى هي الاعتراف باستقلال الإقليمين في جمهوريتين شعبيتين، ما يعني إعلان انقسام أوكرانيا، وأي تصعيد قتالي تقوم به كييف سيكون اقتتالاً داخلياً تدعم فيها روسيا حلفاءها وتستنزف كييف بالقدر الذي تريده روسيا دون أن تكون طرفاً مباشراً في إعلان الحرب.

الخطوة الثانية هي جلب كييف ومشغليها إلى اتفاق مينسك مرغمين وضمان حقوق الجمهوريتين الوليدتين ربما في فيدرالية أوكرانية، وهذا يضمن لروسيا فيتو مستمراً على انضمام أوكرانيا للناتو.

وتحتفظ روسيا بذلك برصيد خطوة إلى الوراء تقدمها للخصوم عند اللزوم.

 

روسيا ورصيد خطوة إلى الوراء

وحدة أوكرانيا، بقانون خاص لإقليمي دانيتسك والدونباس ضمن الجمهورية الأوكرانية وتطبيق اتفاقية مينسك كاملاً. وعندئذٍ بالضرورة يصبح موضوع تمدد الناتو في أراضيها ضرباً من المستحيل.

 

هل هذا السيناريو واقعي؟!

سياسياً ليس هناك أمام روسيا مسار أفضل وأسلم من هذا السيناريو، فهي تدرك المقاصد النهائية المطلوبة أمريكياً من هذا الإصرار على نشوب الحرب.

روسيا تغامر اليوم بما تمتلك من أوراق قوة بدلاً من أن تنتحر في حرب شاملة باهظة الثمن، أو تسلم أمنها الوطني وتخسر دورها وحضورها ومصالحها.

روسيا القوية هي روسيا الموحدة التي يستظل بها جيرانها وحلفاؤها، أمّا روسيا المقيدة والضعيفة فيسهل تفكيكها، وهو ما تضعه الولايات المتحدة هدفاً أساسياً لها.

ستحمل الأيام القادمة تهويلاً وعقوبات واجتماعات قمة وتصريحات وعنتريات، ولكنها ستبقى عاجزة عن إعادة روسيا أكثر من خطوة إلى الوراء لتبقى متقدمة بخطوة تصون أمنها القومي وتعزز حضورها الإقليمي والعالمي.

وخلاف ذلك فما من خيار أمام خصومها سوى الحرب التي ستخرج أوكرانيا من أطلس الخرائط، وتعيدها إلى ما كانت عليه عبر التاريخ قبل مجيء الثورة البلشفية ١٩١٧.

هي الحرب إذاً التي ربما يرغب بها الأمريكيون والقوميون الافتراضيون في كييف، هي الحرب التي تخيف الأوربيين الكبار لمخاطرها المباشرة عليهم، هي الحرب التي لا تتمنّى روسيا قيامها لأنها والشعب الأوكراني سيسدّدون هذه الفاتورة الباهظة الثمن.

وإن غداً لناظره قريب!

 

العدد 1105 - 01/5/2024