اليسار ومخاض الولادة

محمد علي شعبان:

تسيطر القوى اليمينية على معظم بلدان العالم، منذ تفكيك الاتحاد السوفيتي، وانتصار الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على القرار في معظم البلدان، بأشكال مختلفة بين بلد وآخر.

ثلاثة عقود من الزمن واليسار العالمي في حالة تراجع هنا ومراوحة في المكان هناك، والإدارات الامريكية المتعاقبة، بالتعاون مع حلفائها من دول الرجعيات العربية، يستبيحون البلدان العربية ويتدخلون بشؤونها الداخلية، ويرسمون سياساتها، وطبيعة علاقاتها مع جوارها.

هذا التحالف الذي دام طويلاً كان له عدة آثار سلبية، على معظم البلدان والمؤسسات والأحزاب اليسارية في العالم بشكل عام، وفي المنطقة العربية بشكل خاص.

فماذا فعلت الأحزاب اليسارية، خلال ثلث قرن من الزمن؟

هل حافظت على ذاتها؟ أو تراجعت وتراجع فعلها وتأثيرها؟

لقد حصل العديد من التغيرات على الأحزاب اليسارية، فقد كانت هدفاً للقوى الرأسمالية وحلفائها من دول الرجعيات العربية، التي حققت اختراقات في بنية الأحزاب اليسارية، وبدأ الترهل في داخلها. وكان للمال الخليجي دور هام في خلق انزياحات عند بعض القيادات اليسارية، الذين تحولوا إلى كومبارس في فركونات القطار الأمريكي، الذي نجح في تضليل العديد من الذين شغلوا مناصب قيادية في العقود السابقة.

كنا ننتظر من الأحزاب اليسارية إجراء مراجعة وتقييم للمرحلة التي أعقبت تفكيك الاتحاد السوفيتي، إلا أن حالة اليأس منعت حصول ذلك.

ومنعت تيارات وحركات اليسار الجديد من الانطلاق، بعد تعميم ثقافة التضليل التي سادت لفترة طويلة من الزمن، والتي اعتمدت لغة التأكيد على نهاية التاريخ، وانتصار الرأسمالية، وهزيمة الاشتراكية.

لقد ساهمت العديد من القوى في ترويج إشاعات، تفيد أن انتصار الرأسمالية أصبح أمراً واقعاً، ومن يريد الاستمرار عليه أن يحجز مكاناً في ذلك القطار، الذي روجت له.

كل القوى الدينية بألوانها المختلفة، وكل الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، والأحزاب الليبرالية الجديدة، وأطراف هشة في أحزاب يسارية، وصلت إلى موقع المسؤولية، بأشكال مختلفة، كان للفساد والمحسوبية دور بارز في وصولهم.

وقد كان لهم مساهمة فاعلة في زراعة اليأس عند العديد من الشخصيات القلقة الموجودة في الأحزاب اليسارية.

وظهرت حالة التشظي والتراجع عند العديد من النخب، وفقدان البوصلة عند البعض الآخر.

فبدلاً من إجراء مراجعات وإعادة تصويب، سارع البعض لجلد الذات، وتسويق أفكار كانت الصهيونية قد أعدتها، وهيّأت الوسائل الإعلامية الخاصة لتسويقها، وشجعت العديد من الباحثين والمفكرين في الترويج لها وانخراطهم بنقد التجربة اليسارية، بشكل عام، وتجربة الأحزاب الشيوعية بشكل خاص.

وكان لهم ما أرادوا، من شخصيات ادعت اليسارية وعملت في صفوف اليسار.

وادعت الماركسية وعملت في صفوفها، وقدموا العديد من الخدمات لأعداء اليسار الذين ترتجف أعصابهم عندما تذكر اليسار الجديد، أو تقول: إن انتصار الرأسمالية في جولة لا يعني ذلك أنها انتصرت للأبد.

وبعد المتغيرات الجديدة التي حصلت في أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد، ماذا يتوجب على من بقي من اليسار العربي، واليسار الماركسي، أن يفعلوه؟

بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان، واستعدادها للانسحاب من سورية والعراق، وغرق السعودية في مستنقع اليمن، وقلق الصهاينة ومن يتحالف معهم من تنامي قدرات المقاومة في لبنان وفي فلسطين، والإشارات التي تصل باستمرار لقادة الكيان من أطراف مختلفة من المقاومة تفيد أن تحرير فلسطين قادم لامحالة، فهل أصبح المناخ مناسباً لولادة يسار جديد؟ أو أن اليسار القديم في طريقة لإعادة تشكيل ذاته، مستفيداً من تجربة ثلاثة عقود مضت، من استفراد الولايات المتحدة الأمريكية في حكم العالم، وفشلها في تحقيق ما تريد، وأن حركة التاريخ لا تتوقف.

إن معظم المتغيرات التي تحصل في العالم، وعلى كل الأصعدة تقول: لقد حان الوقت لعودة قطار اليسار إلى سكته الصحيحة، والانتقال من الانتظار والترقب، إلى المشاركة في تصويب ما يمكن تصويبه، وإصلاح ما يجب إصلاحه، تمهيداً لبدء مرحلة جديدة من التغيير الذي أصبح ضرورة حقيقية، والعالم على أبواب مرحلة جديدة من الحروب، التي أسست لها الإدارة الأمريكية ومن يتحالف معها، خلال ثلث قرن من الزمن.

 

 

العدد 1104 - 24/4/2024