المتقاعدون.. الذهب العتيق

د. سلمان صبيحة:

تشهد المنصَّات الإلكترونيّة في سورية نقاشاً وحواراً وطنياً كبيراً وعميقاً حول موضوع (التقاعد) وضرورة دعم المتقاعدين، وعن هجرة الشَّباب والأدمغة والكفاءات خارج البلاد، ومناقشة أسباب الظَّاهرة غير المسبوقة بتقديم عدد كبير من العاملين بطلبات استقالة عن العمل، كل هذه المواضيع الاجتماعية المرتبطة بالوضع الاقتصادي وتحسين الواقع المعيشي فعلاً تحتاج إلى نقاش واسع، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّ هذه الأمور تحتاج إلى مؤتمر وطني شامل يُشارك فيه كلّ المعنيين والممثلين عن الأطياف الشعبية الواسعة لمناقشة كل هذه المواضيع، ولعلَّ الدور الأساسي يقع على عاتق الأحزاب السياسية في البلاد وعلى القوى الوطنية، ويمكن أن يُعقَد هذا المؤتمر بدعوة من الاتحاد العام لنقابات العمال، من أجل إيجاد حل عاجل وسريع لهذه القضايا الهامة المطروحة، ولعل أبرزها مناقشة مطالب الطبقة العاملة وتحسين واقعها المعيشي والاقتصادي وإصلاح الرواتب والأُجور بشكل عام، والاهتمام بالمتقاعدين بشكل خاص ومنحهم كل الرعاية والعناية وتحسين واقعهم المعيشي، وإيجاد صيغة قانونية تُبقي العامل والموظف أعضاء في الاتحاد العام لنقابات العمَّال مدى الحياة، لأنَّ بقاء العامل المتقاعد في تنظيمه النقابي يجعله على تواصل دائم بعمله وزُملائه، ويمكن للجهات العامة الاستفادة من خبرات العاملين السابقين من خلال نقاباتهم لتقديم أيّة مشورة أو رأي يفيد العمل ويحسّنه، إضافةً إلى استفادة المتقاعد من الحسومات والميزات النقابية التي تُمنح للأعضاء، ولاسيما في مسألة الطبابة وتأمين الدّواء، وهذا حق للمتقاعد وواجب على الدولة، وذلك أسوةً بغالبيّة دول العالم التي يوجد فيها نظام للتقاعد مدروس بعناية بحيث يحقق طموح جميع المتقاعدين وأمنياتهم، بتأمين حياة حرة كريمة لا تجعلهم يندمون على السّنين التي عملوا فيها بكل جد وشرف وإخلاص ومسؤوليّة، فالرعاية الصحيّة والفحص الطبي الدوري وتأمين الدواء هي من البديهيات، وحتى إن بعض الدول تُضاعف راتب المتقاعد فور إحالته للتقاعد، وتخصص لهم نوادي ومطاعم وتنظم لهم الرحلات الترفيهية المجانية أو بالأسعار الرمزية.

مطالب المتقاعدين في بلادنا بسيطة ومحقّة، وقد تكون مؤسسة التأمينات الاجتماعية قادرة على حل الجزء الأكبر منها، لأن لديها إمكانيات مادية ضخمة وهي تُعتبَر من أغنى المؤسسات الحكومية. أما الجزء الآخر فيمكن للاتحاد العام لنقابات العمال، بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، أن ينجزه، لكي يصبح التقاعد عندنا حلماً سعيداً لكل موظف وعامل، وليس كما هو الآن كابوساً أسود مخيفاً.

هؤلاء المتقاعدون (أهلنا وإخوتنا) هم البُناة الأوائل للبلاد، أعطوا كلّ ما لديهم وأفنوا عمرهم في خدمة الوطن والدولة، وهم يستحقون منّا كل الاحترام والتّقدير.

و بناءً على ما تقدّم نضم صوتنا إلى أصوات زُملائنا أصحاب (الشعر الأبيض)، هؤلاء التُّحف الثمينة التي وضعتها الأنظمة والقوانين على الرّف مبكراً بكلِّ قسوة ودون شفقة أو رحمة، وهم في قمة عطائهم ضاربين بعرض الحائط كل الخبرات المتراكمة لديهم عبر السنين، فهؤلاء هم الكنز البشري الثمين (الذهب العتيق)، فبدل الاستفادة منهم، يجري وأدهم وهم أحياء، فيفقدون قيمتهم وينطفئ بريقهم تدريجياً عبر السنين.

لذلك، ومن أجل إيجاد حلٍّ عادلٍ ومنصف لملف المتقاعدين، قد يكون من الهام والمهم جداً، إضافةً إلى ما ذُكر أعلاه، أن تقوم الجهات المعنية كافة ولا سيما الاتحاد العام لنقابات العمال ورئاسة مجلس الوزراء بالإجراءات السريعة التالية:

1- زيادة الرواتب للمتقاعدين بشكل عاجل واستثنائي بنسبة 50%.

2- السماح لكل المتقاعدين بالحفاظ على عضويتهم في نقاباتهم والبقاء فيها مدى الحياة.

3- السماح للمتقاعدين بالاستفادة من كل صناديق الرعاية الاجتماعية والصحية الشاملة مع تقديم العلاج والدواء المجاني لهم مدى الحياة.

4- بغية الحفاظ على الخبرات والاستفادة منها بالحد الأقصى وخاصة في هذه المرحلة، مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار، قد يكون من المهم جداً الإسراع بإصدار نظام تقاعدي حديث يُحدَّد فيه سن التَّقاعد كحد أدنى للرجال 65 سنة، وللنساء 60 سنة.

عندما يكون هناك نقاش له علاقة بالشّأن العام يجب أن تكون كلّ الخيارات مفتوحة، وأنا على ثقة بأنَّه وأثناء النّقاش والحوار الديمقراطي المسؤول ستظهر آراء أُخرى جديدة وخلَّاقة، وستخرج الأفكار القيّمة والمبدعة المطمورة في العقول لتغني النّقاش وتعطي الحلول، فسورية ولَّادة الأحرار والشرفاء والمقاومين، التي أبهرت العالم بصمودها وصبرها ونصرها الذي هز الدنيا، قادرة على النهوض وإعادة البناء والإعمار من جديد.

 

العدد 1104 - 24/4/2024